سؤال نيقوديموس الثّاني: بعد أن بين الرّب يسوع المسيح لنيقوديموس حقيقة الولادة من فوق وأهميتها وكيف نتأكد من حدوثها، وذلك من خلال إعطاء مقارنة بين حركة الريح وعمل الروح في حياة المؤمن. بعد كل هذا نكتشف أن نيقوديموس لم يفهم ما كان يتحدث عنه الرّب يسوع المسيح، والسبب بكل بساطة أن نيقوديموس كان يفكر بعقله الطبيعي الذي يستخدم المنطق والتحليل، وبالتالي يعجز عن فهم وإدراك مقاصد الله، حيث نقرأ في الآية 9 سؤال نيقوديموس: "كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا؟". ويدل هذا السؤال بكل وضوح على عدم فهم نيقوديموس لما قاله له الرّب يسوع. في الواقع أننا مثل نيقوديموس تمامًا، فنحن لسنا أفضل منه، مع أننا نعيش في عصر يختلف تمامًا عن عصره، ونمتلك من وسائل المعرفة والعلم ما لم يحلم نيقوديموس بوجوده. فكثيرًا ما نسمع آيات من الإنجيل، وكثيرًا ما نستمع إلى دروس من الكتاب المقدس، وإلى عظات كتابية عن الحياة المسيحية، ولكننا لا نفهم ما نسمعه، وهذا أمر مؤسف ويحزن قلب الله، لأن المسيح يريدنا أن نسمع ونفهم، ومن ثم نعيش على ضوء ما تعلمناه من كلمة الله.
بعد أن طرح نيقوديموس سؤاله الثّاني على الرّب يسوع، أخذ الحوار اتجاهًا جديدًا، حيث أجابه الرّب يسوع المسيح بإلقاء عظة روحية احتوت على أهم إعلانات الله في الإنجيل المقدس، ولم يعد نيقوديموس يتكلم نهائيًا، بل استمع لأقدس وأهم ما يمكن للإنسان أن يستمع إليه في حياته.
كان الحوار في بداية اللقاء متبادلًا بين نيقوديموس والرّب يسوع، ثم جاءت اللحظة التي أصبح فيها لزامًا على نيقوديموس أن يصمت وأن يُصغ بانتباه لما يقوله الرّب. ونحن أيضًا، عندما نأتي إلى الرّب، أو نحضر إلى الكنيسة، نجد أنفسنا مندفعين لطرح الأسئلة، ولكن علينا أيضًا أن نصمت ونسمع كلمات الله وهو يبين لنا طريق الحق والحياة الأبديّة. فروح الجدل والحوار قد تنفع مع الناس أما مع الله، فإننا لا نستطيع أن نحاوره باستمرار، بل علينا أن نصغي لما يقوله لنا الله، لأنه يريد لنا أن نفهم كلماته وأن نطيع إرادته وأن ننال بركاته غير المحدودة.
جواب الرّب يسوع على سّؤال نيقوديموس الثّاني: في بداية إجابته قال الرّب يسوع لنيقوديموس: "أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هَذَا!". في الأصل اليوناني لدينا أل التعريف أمام كلمة معلم، ὁ διδάσκαλος τοῦ Ἰσραὴλ (هو دِداسكالوس تو إسرائيل) أي أن العبارة حرفيًا هي: "أَنْتَ المُعَلِّمُ لإِسْرَائِيلَ"، وهنا أشار الرّب يسوع إلى المركز المرموق الذي يحتله نيقوديموس في مجلس السنهدرين الأعلى في أوروشليم، ومع ذلك فإن هذا المعلم الذي يعرف ويعلم شريعة الله للناس لم يعرف التعليم عن الولادة الجديدة. عادة يتمتّع المتعلمون بقدرة على استيعاب وفهم الحقائق الروحيّة أكثر من غيرهم، ولذلك وجه الرّب يسوع له هذا اللوم الخفيف.
صحيح أن عقيدة الولادة الجديدة وتعليمها قد كملت في العهد الجديد، ولكن مثل غيرها من الحقائق الروحية المجيدة، فإنّه سبق لرجال الله في العهد القديم أن تكلموا عن الموضوع في نبواتهم، حيث نقرأ في حزقيال 19:11 "وَأُعْطِيهِمْ قَلْبًا وَاحِدًا، وَأَجْعَلُ فِي دَاخِلِكُمْ رُوحًا جَدِيدًا، وَأَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِهِمْ وَأُعْطِيهِمْ قَلْبَ لَحْمٍ" وفي حزقيال 25:36-27"وَأَرُشُّ عَلَيْكُمْ مَاءً طَاهِرًا فَتُطَهَّرُونَ. مِنْ كُلِّ نَجَاسَتِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَصْنَامِكُمْ أُطَهِّرُكُمْ. وَأُعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وَأَجْعَلُ رُوحًا جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِكُمْ وَأُعْطِيكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ. وَأَجْعَلُ رُوحِي فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَجْعَلُكُمْ تَسْلُكُونَ فِي فَرَائِضِي وَتَحْفَظُونَ أَحْكَـامِي وَتَعْمَلُونَ بِهَا". وفي مزمور 10:51 "قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اللهُ وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي"، ورأينا نفس التعليم في مزمور 30:104 "تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ. وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ"، فكل هذه النبوات عن التجديد والروح والقلب الجديد كان من المتوقع من نيقوديموس أن يعرفها ويعلّمها للناس لكونه معلمًا لهم، ولكن يبدو أنه مثل غيره من الفريسيين، اهتم بتعليم تقاليد الشيوخ وصايا الناس أكثر من تعليم كلمة الله.
بعد ذلك نطق الرّب يسوع في الآية 11 بالعبارة المعروفة "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ" وكما نعرف فإن هذا يدل على أن المسيح على وشك إعلان حقيقة مهمة لنيقوديموس وللعالم أجمع. وبعد هذه العبارة نجد بوضوح أن الرّب يسوع تكلم بسلطان مجيد يكشف طبيعته السماوية، وليس مثل سلطان الكتبة والفريسيين المفروض على الناس، حيث قال لنيقوديموس: "إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا"، أي أن المسيح هنا تكلم بصيغة الجمع، مع أنه نادرًا ما لجأ لهذا الأسلوب، وخصوصًا في حواره مع الناس، حيث يستخدم دائمًا عبارة "أنا هو"، أو "أقول لكم"، وحديث المسيح هنا بصيغة الجمع هو إشارة إلى أنه يتكلم باسم الله الجامع في وحدانيته، أي باسم الله المثلث الأقانيم، وكذلك يتكلم عن نفسه وعن تلاميذه قائلًا بأن ما يتكلمون به ويشهدون عنه ناتج عن اختبار حقيقي وأكيد.
إن تعاليم الرّب يسوع ليست نظريات، أو أفكار مجردة، أو شطحات فلسفية، أو أمور نظرية، بل أن ما نتعلمه من الرّب يسوع هو الحق المطلق، فالمسيح يعلم ويشهد بما رآه في السماء وعلى الأرض، ومع ذلك لم يقبل العالم شهادة وتعاليم الرّب يسوع، وهذا ليس بالأمر الجديد، لأن العالم وعلى مدى قرونٍ عديدة رفض إعلانات وشهادات الله بواسطة الأنبياء السابقين لمجيء الرّب يسوع. وقول الرّب يسوع هنا "وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا" فيه توبيخ لكل من لم يؤمن، وأيضًا فيه دعوة للتوبة وقبول هذه الشهادة.
يتابع الرّب يسوع حديثه في الآية 12 عن عدم إيمان العالم ورفضه تعاليم المسيح بما يتعلق "بالأَرْضِيَّاتِ"، أي بالأمور الروحية التي تحدث على الأرض، مثل مقارنة الرّب يسوع حركة الريح بعمل الروح القدس في حياة الناس، فكيف ستكون الحالة لو تحدث الرّب يسوع في الأمور السماوية المجردة وبدون أمثال، فإنهم بالتأكيد سيرفضون التعاليم لأنهم أصلًا سيعجزون عن فهمها.
ثم ينهي الرّب يسوع توبيخه لنيقوديموس بإعلان حقيقة سماوية مجيدة وهي قوله أن تعاليمه عن الحق والولادة الجديدة لا يأتي من فراغ أو تأمل روحي، بل أن معرفته عن الله تنبع من كونه الشخص الوحيد في الوجود الذي لديه المعرفة الحقيقية عن الله لأنه الوحيد الذي نزل من السماء، فهو ابن الإنسان، أي الله المتجسد في صورة إنسان، وهو وحده الذي رأى الله الآب، وهو في كل حين في وحدة روحية مع الآب حتى في أيام تجسده على الأرض. أي أنّ المعرفة الأساسية الحقيقية عن الله تأتي من الرّب يسوع، فهو المعلن الأعظم لشخص الله، لأنه جاء من السماء.
ظن اليهود في أيام الرّب يسوع على الأرض، أن الله إلههم فقط، وبأنه يهتم بهم فقط، وبأنهم فقط موضوع محبّة الله، وبالتالي فقد اعتقدوا أن الله لا يحب أحدًا من الناس غيرهم. ومثل هذا الاعتقاد الباطل لا ينحصر في اليهود الذين عاشوا قبل ألفي عام، بل أنه ينطبق على اليهود الذين يعيشون في أيامنا، فهم يصورون الله بأنه لهم فقط، وبالتالي يعتبرون أنفسهم أفضل وأحسن من غيرهم من الشعوب، ويعطون لأنفسهم المبرر لشرور وجرائم كثيرة يرتكبونها بحجة أنهم شعب الله المختار.
وهذه النظرة الأنانية والضيقة إلى الله لا تنحصر في اليهود، بل أنها موجودة بين أصحاب ديانات أخرى، وحتى طوائف مسيحية معينة. فأصحاب الديانات المعاصرة يقولون أن الدين عند الله هو دينهم، وأن الله لا يقبل أي إنسان لا يدين بدينهم، وينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم خير أمة أُخرجت للناس، وبهذا فهم يعتقدون أن الله يهتم بهم فقط، وأن الله سينصرهم على أعدائهم، وبأن الله لا يعمل خيرًا إلا لهم وحدهم.
هذه الأفكار الخاطئة والشريرة عن الله تختلف تمامًا عن حق الله المعلن في الإنجيل المقدس، بل أن هذه الأفكار تبين أن الناس خلقوا أو صوروا لأنفسهم إلهًا على صورتهم ومثالهم، فبدلًا من أن يكونوا هم صورة عن الله، جعلوا الله صورة لما في قلوبهم من كبرياء وعنصرية وشر وفساد، وصوروا الله بالكائن الذي يحب شعبًا أو قومًا من الناس ويكره الآخرين، أو ينصر أمة من الناس ويهزم الآخرين.