يبدو أن تباهي رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو بأن أوضاع المسيحيين في إسرائيل أفضل من أوضاعهم في الدول العربية المجاورة ليس وليد الصدفة، بل توجه سياسي يهدف إلى "تبييض" وجه إسرائيل أمام الدول الغربية. فكتب السفير الإسرائيلي في واشنطن، ميخائيل أورن، في صحيفة "The Wall Street Journal " أن في الوقت الذي يُدفع فيه المسيحيين إلى خارج الدول العربية فهم يزدهرون في إٍسرائيل.
وبالطبع لا يذكر أورن المسيحيين الذين عاشوا في البلاد ما قبل الـ48 وهربوا بسبب فظائع الحرب أو هُجّروا على يد الإسرائيليين، والذين، تمامًا كإخوتهم المسلمين، لم يُسمح لهم بالعودة إلى بيوتهم بعد تأسيس دولة إسرائيل.
وفي المقابل، يتكلم أورن عن اليهود الذين طُردوا من الدول العربية (تُريد العقيدة الصهيونية أن تربح في كل الأحوال: فهي تريد أن يهاجر كل اليهود من كل العالم إلى إسرائيل، ولذلك تُرسل مبعوثين لا ليهيئوا الطريق للمهاجرين فحسب بل ليزيدوا من ذعرهم في طريقهم "للهرب" إلى إسرائيل؛ وبالمقابل، يتذمرون على من يفرض حظرًا على النشاطات الصهيونية وعلى طرد اليهود من تلك البلاد).
ولا يذكر أورن التدهوّر المنظّم في وضع اليهود القادمين من الدول العربية، الذين أصبحوا مواطنين من الدرجة الثالثة في إسرائيل التي تعتبر نفسها امتدادًا للغرب "المستنير" في الشرق الأوسط "البربري". فهو مشغول بالقول أن "800,000 يهودي طُردوا من الدول العربية، وكذلك العديد من المسيحيين يُطردون من بلدان عاشوا فيها قرونًا من الزمن"، على حد تعبيره. ويضيف أن من بين جميع دول المنطقة، المسيحيون يزدهرون فقط في دولة إسرائيل!
ويفصِل أورن ما بين إسرائيل والضفة الغربية وغزة. ففي تلك المناطق الفلسطينية، يقول أورن، تناقص عدد المسيحيين، فيرثي أورن لحالهم قائلاً: "المسيحيون في تلك البلاد يعانون من نفس الأوضاع التي يعاني منها إخوتهم المسيحيين في جميع أنحاء المنطقة."
وقد نُشرت أربع رسائل تدحض مقال أورن في الصحيفة ذاتها. فكتب القس روبرت سميث من شيكاغو: "المشكلة الأكبر في التحليل الذي قدمه السيد أورن، هي أنه يتناقض مع وجهات نظر أولئك الذين يَفترض أنه يريد أن يحافظ عليهم ويحميهم. فيسعى السيد أورن أن يتحدث باسم الفلسطينيين المسيحيين قبل أن يقوم بالتحدث معهم."
لكن مع أن أورن لم يتكلم إلى المسيحيين الفلسطينيين مباشرة، فقد أثار مقاله غضب الكثيرين منهم. فوقّع ثمانون شخصية مسيحية بارزة على رسالة موجّهة للسفير في الأسبوع الماضي، كرد على مقاله، وإشاروا إلى أنه يشوه الحقائق. فكتبوا: "إن محاولتك إلقاء اللوم على المسلمين الفلسطينيين واتهامهم بأنهم المسؤولون عن الواقع الصعب الذي يواجهه المسيحيون الفلسطينيون، هي تشويه مُخزٍ للحقائق، وتهدف إلى إخفاء الضرر الذي تسببت به إسرائيل لمجتمعنا". وأضافوا قائلين: "إن التزايد المبالغ فيه لعدد المسيحيين في إسرائيل الذي يزعمه السيد أورن هو نتيجة قدوم الروس المسيحيين بالأساس والذين لا تستطيع إسرائيل أن تفرقهم عن القادمين الروس اليهود الذي تدفقوا إلى البلاد بُعيد انهيار الاتحاد السوفييتي."
أحد الموقعين على الرسالة هو رفعت قسيس، منسق وثيقة كايروس فلسطين، وهي منظمة مسيحية تضم مسيحيين من عدة طوائف تأسست في العام 2009 لتشرح، للمسيحيين بالأساس، واقع الاحتلال الإسرائيلي. وقال قسيس، وهو من سكان بلدة بيت ساحور في الضفة الغربية، : "يحاول السيد أورن استغلال ما يحدث في العالم العربي لأغراض الدعاية السياسية، مع أن الواقع الذي يعيشه المسيحيون الفلسطينيون مختلفٌ تمامًا. نعم، تواجهنا الكثير من المشكلات ولست أنوي التقليل من شأنها، لكن السيد أورن يحاول إنكار كون الاحتلال السبب الرئيس في معاناة الفلسطينيين."
وقام السيد قسيس بإجراء استقصاء احصائي للمسيحيين القاطنين في المناطق الفلسطينية المحتلة، وقال أن الأغلبية الساحقة منهم ربطت ما بين رغبتها في الهجرة وبين انعدام الأمن والاستقرار في ظل الحكم الإسرائيلي. أقل من واحد بالمئة قالوا أنهم خائفين من المسلمين.
وقد أرسلت كايروس فلسطين رسالة إلى صحيفة "The Wall Street Journal" تلوم فيها السياسة الإسرائيلية بأنها تؤدي إلى تهجير المسيحيين، لكن الرسالة لم تُنشر. وتقدم الرسالة مدينة بيت لحم كمثال: "بالنسبة لبيت لحم، مثلاً، فإن ما دفع الكثير من المسيحيين إلى الهجرة هو بناء المستوطنات الإسرائيلية المستشري في
المنطقة، والجدار الفاصل الخانق ومصادرة الأراضي الفلسطينية من قبل الحكومة الإسرائيلية." وتضيف الرسالة: "في الوقت الحالي، بَقي مجرد 13 بالمئة من أراضي منطقة بيت لحم للسكان الفلسطينيين".
وتقول الرسالة أيضًا أن مقال السيد أورن "يكشف عن مفهوم مُقلق للديموقراطية ذاتها"، إذ يدعي أورن أن إسرائيل تعمل على جعل المسيحيين يعيشون برخاء وازدهار في ظل حكمها. وبذلك يلمح أورن أن الدولة التي يمثلها ليست مهتمة بتوفير الرخاء ذاته لمواطنيها المسلمين.
وقد عبر الموقعون على الرسالة عن دهشتهم من "التباهي السخيف" الذي يلوّح به أورن أن إسرائيل تضمن حرية وصول جميع المسيحيين إلى الأماكن المقدسة، فقالوا: "إن إحدى فظائع الاحتلال الرئيسة هي أن يحتاج أي شخص إلى تصريح لزيارة المدينة المقدسة أصلاً: الحد من حرية التنقّل هو أحد المظالم الأساسية التي تحاصر حياتنا".