كيف نميز التعليم الصحيح

يكثر الكلام كثيرا هذه الأيام عن كيفية إكتشاف التعليم الصحيح. ويتحاور الكثيرون عن كيفية التأكد من صحة تعليم ما وهل هو من الله أم لا. أو ماهي القاعدة الأولي لإكتشاف صحة التعليم؟ هل هناك قاعدة للإيمان الصحيح يمكن القياس عليها؟
13 يناير 2011 - 00:43 بتوقيت القدس

"كل ماكتب بالإلهام الإلهي له سلطة الديانة"
"كلمة الله هي قاعدة الحق وقانونه"
"كل ماكتب في الأسفار المقدسة نلتزم بالإيمان به إلتزاما مطلقاً"
"إذا وعينا جيداً سلطان الأسفار المقدسة إستوعبنا الإيمان نفسه"
القديس أغسطينوس

يكثر الكلام كثيرا هذه الأيام عن كيفية إكتشاف التعليم الصحيح. ويتحاور الكثيرون عن كيفية التأكد من صحة تعليم ما وهل هو من الله أم لا. أو ماهي القاعدة الأولي لإكتشاف صحة التعليم؟ هل هناك قاعدة للإيمان الصحيح يمكن القياس عليها؟

ينادي الكثيرون بأن كتابات الأولين هي الحكم الأساسي وأن المسيحيين الآن ليس من حقهم فهم الكتاب المقدس في إتجاه مخالف لكتابات الأولين وأن الأولين هم المرجعية الوحيدة لتحديد الإيمان ولتحديد طريقة فهم الكتاب المقدس. ويكمن تسمية طريقتهم "التفسير التقليدي". هؤلاء يجعلون عقولهم تقف ويخضعون لما فهمته عقول الأولين.

وآخرون ينادون بأن إعمال العقل للحصول علي الإيمان الصحيح هو القاعدة الأولي. وهؤلاء يتخطون عبارات الكتاب المقدس ويحددون بعقلهم الإيمان الصحيح. أي أن عقولهم هي المرجعية لتحديد الإيمان وتحديد طريقة فهم الكتاب المقدس. ويمكن تسمية هذه الطريقة "التفسير العقلي".

ولنتعرض سوياً لهاتين الطريقتين، ولنتعامل أولاً مع طريقة التفسير العقلي:

التفسير العقلي

المقاييس الفكرية البشرية متغيره من زمن إلي زمن
قال الرب يسوع لتلاميذه "انظروا وتحرزوا من خمير الفريسيين والصدوقيين." (مت16: 6) وكان الصدوقيون يرفضون القيامة ويرفضون وجود الأرواح والملائكة لأن هذه الأشياء كانت غير مقبولة لهم فكرياً. فيحذر الرب يسوع التلاميذ من طريقة الصدوقيين في التعامل مع الكتاب المقدس بأن يحذفوا منه أشياء يرفضها عقلهم وفكرهم البشري.

ومن المعروف أن الكتاب المقدس هو "اللبن العقلي العديم الغش" (1بط2: 2) كقول بطرس الرسول. وإحدي طرق غش اللبن هي نزع الدسم منه. وهذا مايقوم به اللذين يستخدمون الحكمة البشرية في التعامل مع الكتاب إذ ينزعون منه الأشياء صعبة الهضم بالنسبة لهم والتي لاتتناسب مع عقلهم. وإن كان بعضهم في خداع مريض لايصورون الأمر علي أنه نزع لبعض أجزاء الكتاب التي لاتتفق مع فكرهم بل يدعون أنهم يحلون مشاكل وأخطاء موجودة فى الكتاب وأنه لايوجد طريقة أخري لحلها.

وإن كان في الكتاب صعوبات ولكن لايوجد أخطاء، هيهات. والصعوبات تنحل عن طريق البحث والتنقيب والجلوس امام الله. فليس فى الكتاب أخطاء لأن "كل كلمة من الله نقية. ترس هو للمحتمين به." (أم30: 5) وإن لم تكن كلمات الله معصومة ونقية من كل خطأ فلن يكون هو ترس أيضاً للمحتمين به. حاشا.

ويواجه الذين ينادون بضرورة إعلاء العقل والفكر البشري والمقاييس البشرية للحصول علي التعليم الصحيح من جهة الإيمان صعوبات بالغة. إذ أنهم يصطدمون كثيرا مع الكتاب المقدس. لأن الذهن البشري والفسلفات والحكمة الإنسانية غير ثابته. فما يناسب زمانا ما لايعود يناسب زماناً آخر. فبين الحين والآخر يصطدم الفكر البشري بالكتاب في مكان ما وحول فكرة ما. وهذه عينه من المشكلات التي يواجهونها:

حقوق الإنسان

فهم لايعجبهم مثلاً أن الله قد أمر بإبادة شعوب بواسطة شعب إسرائيل. ويقولون أن هذا ضد حقوق الإنسان. وينسون أن الله نفسه قد أباد البشر جميعا بالطوفان، وأباد سدوم وعمورة بنار من السماء عندما صعد صراخ خطاياهم للسماء. ومازال حتي الآن يؤدب العالم علي شره وزيغانه عن طريق الكوارث الطبيعية من رياح وعواصف وأعاصير و براكين وسيول وتسونامي إلخ. بل وسيأتي يوما ويلقي الله بكل من لم يتب ويرجع له ويؤمن به وبإبنه يسوع المسيح في البحيرة المتقدة بالنار والكبريت.

أهذا لايحوز إعجاب المنادين بحقوق الإنسان؟ ليكن. لقد كثرت جمعيات المناداة بحقوق الإنسان، ولكن ألا توجد هناك مؤسسة واحدة للمناداة بحقوق الله. لقد خلق الله العالم لكي يعيش البشر فيه بشكل إلهي مقدس، وماذا نري اليوم؟ نري الشر والفساد والإنحلال الأخلاقي والقسوة والعنف والخداع والقتل والتعذيب، ونري إسم الله يجدف عليه كل يوم. إن حقوق الله مهدرة فى هذا العالم إلا عند طائفة قليلة من المؤمنين الذين يملك عليهم الله فى قلوبهم والذين يكرمونه في حياتهم.

لذلك نري الله يؤدب العالم لكي يفيقوا ويتوبوا ويرجعوا عن خطيتهم. وإن لم يرجعوا سوف يلقي بهم جميعا فى العذاب الأبدي. وله المجد في كل مايفعل. ومهما كانت طريقة الله فى تأديب العالم الفاسد الشرير الذي نعيش فيه، فهو من حقه وحده إختيار الطريقة التي يراها لكي يؤدب هذا العالم وينبهه أنه في طريق شرير ماض إلي الجحيم.

فقد يأمر شعبا ما بتأديب شعب آخر وقد يرسل كوارث وأمراض وأوبئة ومجاعات أو يسمح بحروب. إن الله هو القاضي العادل وحده، ديان الأرض كلها وليس هناك من يراجعه ولايحتاج لأحد من خلائقه لكي يصادق علي قرارته. فالله له المجد وحده هو سيد قراره. "لأنه من عرف فكر الرب أو من صار له مشيراً" (رو11: 34) وهو وحده "مخبر منذ البدء بالاخير ومنذ القديم بما لم يفعل قائلا رأيي يقوم وافعل كل مسرتي." (إش46: 11).

ولايجب ان ننسي ان الرب قد فعل نفس الأمر مع شعبه. فعندما فسد الشعب وعبد الأوثان وعاش في الشر وفي الخطية، أرسل لهم شعوب أخري تؤدبهم. فأرسل لهم أشور الذي سبي مملكة إسرائيل الشمالية ثم أرسل لهم بابل التي أزالت تقريباً المملكة الإسرائيلية الجنوبية (يهوذا) من الوجود. وأرسل أولادهم ونسائهم وفتيانهم وشيوخهم في العبودية والسبي. وكان كثيراً مايعاقبهم قبل ذلك بالأمراض أو بالجراد أو الجفاف أو غيرها. "لأن ليس عند الله محاباه" (رو2: 11).

إن من ينادي أن الله لم يأمر موسي النبي بهذا الأمر، في الواقع، يجرد الكتاب المقدس من سلطانه. وإن كان لم يقل الله لموسي هذا الأمر، فكيف ندري إذن أنه قال له عن أي أمر آخر؟ ألا يضع هذا كل أقوال موسي النبي تحت المسائلة. ومن هو الحكم في تلك المسائلة؟ أهو العقل البشري المحدود الملوث بالخطية أم مقاييس العالم المتغيرة التي تبيح الآن حتي الشذوذ الجنسي بإسم حقوق الإنسان.

العدل الإلهي

تنتشر الآن فكرة أن الله هو إله المحبة وهو بالفعل إله المحبة ولكن يريد البشر أن ينسوا وأن يتناسوا أنه أيضاً إله العدل وأنه إلهاً عادلاً وقاضياً مستقيماً وهو في قداسته غاضب علي البشرية بسبب شرها. ولكن الفكر البشري هذه الأيام الأخيرة يريد أن لايري الإله القدوس الذي يدين الخطية ولكنهم يريدون إلها آخر يتغاضي عن الخطية بسبب محبته، وهيهات فإن هذا ليس هو الإله الذ ينادي به الكتاب المقدس.

فلا يعجبهم أيضا أن الله يريد أن يخلص العالم عن طريق موت المسيح الكفاري لتنفيذ حكم الله العادل علي الإنسان في المسيح. ويريدون أن يحولوا الصليب لعلامة علي الحب فقط وهو بالفعل علامة علي الحب، لكنه أيضاً علامة علي بر الله وقداسته، "الذي لم يشفق علي إبنه بل بذله لأجلنا أجمعين" (رو8: 32) فإن كان الصليب ليس غضباً إلهياً وقع علي الرب بدلاً منا، فلماذا إستخدم الكتاب كلمة "يشفق". فالشفقة هي من أجل المعاناة التي مر بها المصلوب لكي يسدد ديننا عند العدل الإلهي. ولماذا لم يمت المسيح ميتة عادية غير مؤلمة، إن كان الموضوع مجرد محبة ومجرد موت لكي نموت مع المسيح وليس تسديداً لدين وإستقبالاً لعقاب كان لابد أن ينزل علينا؟

فهو مات علي الصليب لأن "الرب وضع عليه إثم جميعنا" (إش53: 6) وتعامل الله معه كالخطية تماماً لأنه "جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا" (2كو5: 21). ويقول الكتاب أيضاً "تأديب سلامنا عليه" (إش53: 5) أي أن العقاب الخاص بنا وقع عليه وبذلك صار لنا سلام مع الله. ويقولون أن الله لايغضب وأن الغضب خطية وأن الله لايغضب علي عدله الذي يخالفه البشر كل يوم. مع أن الكتاب المقدس يعلن بكل وضوح أنه "غضب الله معلن من السماء علي جميع فجور الناس وإثمهم" (رو1 :18) وغضب الله غضب مقدس. ليس هو إنفعال عاطفي وقتي لكنه حالة من الرفض وإحلال للعقاب وإن كان قد يؤجل العقاب في معظم الاحيان.

وإن كان المسيح لم يواجه الغضب الإلهي عند الصليب، فلماذا في البستان قبل الصليب "ابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ، فَقَالَ لَهُمْ (للتلاميذ): نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ" (مت26: 37-38). ولماذا صلى قائلاً "يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ، وَلكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ" (مت26: 39) ليس مرة واحدة ولا مرتين (مت26: 42) بل ثلاثة مرات (مت26: 44). إن غيره من القديسين الشهداء نسمع أنهم كانوا يذهبون للإستشهاد مترنمين متهللين رغم ان ميتاتهم كانت أكثر شناعة من ميتة المسيح في بعض الأحيان. بل إن تابع للمسيح مثل بولس الرسول لما تواجه بالموت قال "وَلكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ" (أع20: 24)، وأيضاً عندما بكى الأخوة يطلبون منه أن لايذهب للموت في أورشليم رد عليهم "مَاذَا تَفْعَلُونَ؟ تَبْكُونَ وَتَكْسِرُونَ قَلْبِي، لأَنِّي مُسْتَعِدٌّ لَيْسَ أَنْ أُرْبَطَ فَقَطْ، بَلْ أَنْ أَمُوتَ أَيْضًا فِي أُورُشَلِيمَ لأَجْلِ اسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ" (أع21: 13). فهل كان تابعي المسيح من رسل وشهداء أكثر إيماناً وشجاعة في مواجهة الموت أكثر منه هو شخصياً، حاشا. لكن، إن ما واجهه المسيح على الصليب ليس موتاً فقط لكنه كان كإنسان نائباً عن البشر الخطاه في مواجهة إله عادل. إن الرب يسوع المسيح هو "رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ" (عب12: 2) فلا يصح أن نظن أنه كان يواجه الموت بشجاعة وإيمان أقل من الشهداء، بل إن ما واجهه المسيح على الصليب ليس هو على الإطلاق عين ما واجهه كل الشهداء والقديسين على مر الأجيال من بعده. لقد تواجه مع عدل الله وغضبه كما قال عنه أرميا في مراثيه إذ تحدث على لسان المسيح فقال "أَنَا هُوَ الرَّجُلُ (المسيح) الَّذِي رأَى مَذَلَّةً بِقَضِيبِ سَخَطِهِ (سخط الله أي غضب الله)" (مراثي 3: 1) وهذا النص تقرأه الكنيسة الأرثوذكسية في إحتفال الجمعة الكبيرة ويكمل النبي أرميا متحدثاً على لسان المسيح ويحكي عن ما فعله الله معه على الصليب فيقول عن الله "هُوَ لِي دُبٌّ كَامِنٌ، أَسَدٌ فِي مَخَابِىءَ. مَيَّلَ طُرُقِي وَمَزَّقَنِي. جَعَلَنِي خَرَابًا. مَدَّ قَوْسَهُ وَنَصَبَنِي كَغَرَضٍ لِلسَّهْمِ. أَدْخَلَ فِي كُلْيَتَيَّ نِبَالَ جُعْبَتِهِ. صِرْتُ ضُحْكَةً لِكُلِّ شَعْبِي، وَأُغْنِيَةً لَهُمُ الْيَوْمَ كُلَّهُ. أَشْبَعَنِي مَرَائِرَ وَأَرْوَانِي أَفْسَنْتِينًا، وَجَرَشَ بِالْحَصَى أَسْنَانِي. كَبَسَنِي بِالرَّمَادِ" (مراثي 3: 10-16).

بل حتي المؤمنين هناك غضباً مقدساً يستطيعون أن يغضبوه، لذا قال الكتاب "إغضبوا ولاتخطئوا" (أف4: 26) ولم يقل "لاتغضب". لقد قال "لاتقتل" و"لاتسرق" ولكنه قال "إغضب" دون أن "تخطئ" أي هناك غضب حتي المؤمن يستطيع أن يغضبه، إنه غضب علي مجد الله المهان في العالم.

وهؤلاء يتنصلون من تلك الآيات الكتابيه التي تؤكد الغضب. ويضطرون لأن يتنصلوا من الألفاظ التي نطق بها الروح القدس والتي بها تعبيرات تؤكد غضب الله. ويعودون ويقولون أن الله إنما أوحي بالفكره لكتاب الكتاب المقدس وأنهم هم الذين قالوا أنه يغضب لكنه ليس كذلك. ثم يقرون أيضاً أن هذا هو مبدأ التفسير الصحيح أن نخرج عن الألفاظ ونأخذ المحتوي الذي وراء الألفاظ المكتوبة فى كتاب الله.

المحتوي أم اللفظ

ولكن هل تقوم قائمة لفكرة ما أو محتوي ما دون ألفاظ؟ إن أي تغيير للفظ ما أو كلمة ما يؤدي فى الأساس لتغيير فى الأفكار والمحتوي. كيف نأخذ المحتوي أو الفكر دون رجوع للمنطوق؟ أليست هذه الطريقة فى التفسير ما هي إلا غباء مطلق! هل يوحي الله لموسي النبي أنه غير مرتاح مثلا فيكتب النبي أنه غاضب. هل كتابة "غضب" للتعبير عن فكرة "عدم الراحة" يمكن أن تسمي "وحي"؟ هل يمكن أن تصل لنا فكرة عدم الراحة من خلال كلمة غضب؟؟؟

من هو الحكم إذن فى تلك الأمور؟ أهو عقل الإنسان الذي سيحكم؟ أسأختار أنا أو أي كائن بشري آخر المعنى المخفي وراء هذه الألفاظ الكريمة التي يدعون أنها غير دقيقة؟ أيوجد من هو أدق من صاحب الوحي كموسي النبي أو بولس الرسول؟ هل من حقي أنا أو من حق أي إنسان آخر مهما علا شأنه أن يقرر اللفظ الأنسب الذي كان من الواجب علي موسي النبي أن يستخدمه؟؟؟؟

سوف يعطي فتح هذا الباب لكل إنسان ترخيصاً لكي يري مايستحسن وراء الألفاظ. فمن حقي إذن في هذه الطريقة للتفسير أن أري أن كلمة غضب هي الغضب، وآخر يري أن الغضب هو عدم الإرتياح، ويقول أحدهم أن الغضب معناه هنا الندم، ثم يضيف ألمعياً آخر قائلاً إن الغضب هنا هو التأفف، ويقول مدعيا آخر للثقافة أن الغضب يعنى أنه الله كان غير سعيد. هل هناك شر أكثر من هذا؟ إن هذا الأمر يفرغ الكتاب من معناه. بل ويجعله قابل للتأويل لكي يفي بما يريد الإنسان أن يسمع من الله وليس بما يريد الله أن يقول للإنسان.

رأي إسطفانوس

إن الكتاب المقدس نفسه يتعامل مع كلمات الكتاب المقدس بمنتهي التوقير والإحترام. فيقول الكتاب المقدس علي لسان إسطفانوس عن موسي النبي "الذي قبل اقوالا حية ليعطينا اياها." (أع7: 38) أي أن موسي النبي قد قبل من الله أقوالاً وليس أفكاراً.

رأي بولس الرسول

ويقول بولس الرسول أيضاً "ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الاشياء الموهوبة لنا من الله التي نتكلم بها ايضا لا باقوال تعلّمها حكمة انسانية بل بما يعلّمه الروح القدس قارنين الروحيات بالروحيات." (1كو2: 12، 13) أي أن هناك أشياء روحية موهوبة لنا، وبولس الرسول حين يتكلم بها لايضعها فى أقوال تعلمها حكمة إنسانية، أي لم يستعمل ألفاظ البشر، بل يستعمل ألفاظ يعلمها الروح القدس. فهو إذن يقرن الأشياء الروحية التي من الروح بكلمات روحية من الروح القدس أيضاً وليس بألفاظ بولس وأقوال من عندياته. أي أن مايتكلم به الرسول هو كلمات الروح القدس التي تعبر عن فكر الروح القدس.

وقد تعامل بولس الرسول نفسه مع الكتاب من هذا المنطلق. فنجده يجد معاني وأفكار هامة في كل لفظ نطق به الروح القدس. فنجد أنه في رسالة غلاطية يبني تعليمه علي المفرد والجمع. فيقول أنه "واما المواعيد فقيلت في ابراهيم وفي نسله.لا يقول وفي الانسال كانه عن كثيرين بل كانه عن واحد وفي نسلك الذي هو المسيح." (غل3: 16) فيؤكد الرسول أنه مادام الروح القدس إختار لفظ المفرد وليس الجمع، أي قال نسل وليس أنسال، إذن فهو لايتكلم عن كل أولاد إبراهيم بل عن شخص واحد ألا وهو المسيح.

ولو كان موسي لديه فكرة فقط من الله أو محتوي معين عن الخلاص أنه يأتي من إبراهيم، وقد عبر عن هذا المحتوي بهذه الطريقة، وقال "نسل". لما كان بولس إعتمد علي تعليمه علي أن نسل هنا مفرد وليس جمع. إذ لمن الممكن أن الفكرة أو المحتوي هي أن الخلاص من إبراهيم ولكن موسي إستعمل لفظة نسل بالمفرد من عنده، ياله من فكر مريع وشنيع.

وفي موقع آخر نجده يبني تعليمه علي مالم يذكره الروح القدس. نعم يا قارئي العزيز! لقد لاحظ الرسول أن موسي عندما كتب التكوين لم يذكر أب أو أم لملكي صادق، ولاحظ أيضاً أن هناك أناس كثيرون في سفر التكوين هناك قائمة بأنسابهم وبعائلاتهم. فإستنتج من ذلك أن النبي بالروح القدس عن قصد لم يذكر أبوي ملكي صادق أو نسبه، وذلك للإشارة للرب يسوع المسيح الذي ليس من نسب بشري طبيعي بل من العذراء مريم فقط.

وأيضاً لاحظ الرسول أن النبي لم يذكر عمر ملكي صادق ولاوقت ميلاده ولاوقت مماته، بالمقارنة مع اناس كثيرين فى نفس السفر ذكر موسي النبي أعمارهم ووقت ميلادهم ووقت مماتهم،. وإستنتج من ذلك أن الروح القدس قد قصد ذلك لأن المسيح له المجد المرموز له بملكي صادق هو أزلي أبدي لأنه الله "بلا اب بلا ام بلا نسب.لا بداءة ايام له ولا نهاية حياة بل هو مشبه بابن الله هذا يبقى كاهنا الى الابد." (عب7: 3).

وهو يبني في هذه القطعة الفريدة من رسالة العبرانيين تعليمه علي أساس أشياء تعمد الروح القدس عدم ذكرها. ألا يعلمنا هذا السلطان الواضح للروح القدس في إختيار الكاتب لألفاظه وفي إختياره لما يذكر ومالايذكر. هل يمكن بعد ذلك أن نقول أن النبي لم يذكر هذه الأمور بالصدفة حيث أنه تلقي فكراً أو محتوي ما من الله، ثم صاغه هو في ألفاظ وكلمات، ياله من إنكار مشين لعمل الله الواضح في جميع ثنايا الكتاب المقدس.

رأي لوقا الإنجيلي

ويقول لوقا الإنجيلي أن الله "تكلم بفم انبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر." (لو1: 70) أي أن الله نطق ولكنه كان بفم أنبياء الله القديسين. وهنا يتضح الفرق بين الوحي والإلهام. ففي الإلهام تكون هناك فكرة معينة في فكر الكاتب سيطرت عليه فجعل يصيغها في ألفاظه. أما الوحي، فرغم أن الروح القدس يستخدم المخزون اللفظي للكاتب وخلفيته الثقافية لكنه يهيمن عليه حتي تخرج كلمات الكاتب معصومة من الخطأ ومعبرة بالتمام عن فكر الله. حتي أننا نستطيع بكل يقين أن نقول أن الله تكلم. وأن نقول أن كلمات الكتاب المقدس هي كلمات الله.

رأي بطرس الرسول

ويقول بطرس الرسول "ايها الرجال الاخوة كان ينبغي ان يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود عن يهوذا الذي صار دليلا للذين قبضوا على يسوع." (أع1: 16) أي أن المكتوب هو أقوال الروح القدس وليس أفكاره وقاله بفم داود. وأيضا أن الله تكلم "بفم جميع انبيائه القديسين منذ الدهر." (أع3: 21) وقوله أن الله تكلم يعنى أن الكلمات خاصة بالله نفسه. فهي إذن كلمات الله.

وهناك الكثير من البراهين والدلائل الكتابية التي تؤكد أن كلمات الكتاب وليس أفكاره فقط هي من الله. فمثلا فى (خر24: 3) "فجاء موسى وحدّث الشعب بجميع اقوال الرب وجميع الاحكام.فاجاب جميع الشعب بصوت واحد وقالوا كل الاقوال التي تكلم بها الرب نفعل." فموسي لم يعطي الشعب أفكار من الله ولكن أقوال الرب. أي كلمات الرب الخاصة.

رأي الرب يسوع نفسه

ومثلا في سفر التكوين يعلق موسي النبي علي علاقة الزواج قائلاً "لذلك يترك الرجل اباه وامه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدا واحدا." (تك2: 24) وهو لم يقل أن الرب قال هذا الكلام لكنه يبدو للقارئ العادي أن هذا التعليق هو من الكاتب أي موسي النبي. ولكن جاء الرب يسوع المسيح في العهد الجديد وقال "أما قرأتم ان الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وانثى وقال. من اجل هذا يترك الرجل اباه وامه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحدا" (مت19: 4، 5) أي أنه نسب كلام موسي للخالق أي الله. فالرب يسوع إذن يصادق أن كلام النبي هو كلام الله وليس أفكار النبي هي أفكار الله.

هل هناك إنسان ما يفهم فى الكتاب المقدس وفي طبيعة الوحي أكثر من الرب يسوع؟ هل من حق إي إنسان آخر أن يصحح للرب يسوع المسيح نظرته للكتاب؟ يالها من هرطقة، يالها من جراءة، بل دعوني أقول يا له من تجديف أيضاً.

دعونا نري الآن الطريقة الأخري للتفسير

التفسير التقليدي

وبالعودة لقول الرب يسوع لتلاميذه "انظروا وتحرزوا من خمير الفريسيين والصدوقيين." (مت16: 6) فإن الفريسيين كانوا يعلون التقليد اليهودي والتلمود وكتابات الربيين علي الكتاب المقدس. ومعروف أن الكتاب المقدس هو "اللبن العقلي العديم الغش" (1بط2: 2) كقول بطرس الرسول. والطريقة الثانية لغش اللبن هي إضافة ماء أو أي سوائل أخري له. وهذا مايقوم به اللذين يضعون الكتاب المقدس في مكانة أقل أو حتي مساوية لكتابات مسيحيين أخرين أو قادة أو مسيحيي الكنيسة الأولى. إذ يضيفون له أشياء ليست فيه. فبدلا من أن يستخدموا هذه الكتابات كشروحات للمساعدة في فهم الكتاب، نجد أنهم يعطونها شأنا أعلي من الكتاب او مساوٍ للكتاب.

لمن اليد العلي

فإن من ينادي بأن كتابات أوائل المسيحين هي الأساسية في الحكم علي صحة التعليم أيضا علي خطأ كبير. فمع إحترامنا لكتابات القديسين الأوائل، فهي لاترقي لمستوي الوحي المقدس. فإن كلمات مثل "تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" و "لم تأت قط نبوة بمشيئة إنسان" (2بط1: 21) و "كل الكتاب موحي به من الله" (2تي3: 16) لاتنطبق بالقطع علي كتابات القديسين الأوائل. بل إنهم هم أنفسهم لم يخطر علي بالهم قط أن يساووا بين كتاباتهم والوحي المقدس. بل أني أقول لو أنهم كانوا علي علم بأن البعض سوف يعطي كتاباتهم سلطانا مساويا أو أعلي من الكتاب المقدس، لكان بعضهم في إتضاع عظيم سوف يختار أن لايكتب شيئاً علي الإطلاق.

أما فكرة أن هذه الكتابات هي الحكم الأساسي فى صحة التعليم فهي ليس فقط تضع كتابات البشر القديسين فى نفس المرتبة مع وحي الله، لكنها تعطي لكتابات البشر القديسين مرتبة أعلي من الكتاب المقدس. فالكتاب المقدس هو السلطة الأعلي وكل كتابات أخري تقاس عليه ولايقاس هو عليها. وإلا نكون ليس فقط ساوينا بين كتابات قديسين وكتابات الروح القدس بل نكون قد قررنا أن الوحي أقل قيمة من كتابات البشر القديسين. ويالها من هوة عظيمة نكون قد سقطنا فيها.

إن أي قارئ بسيط لكتابات القديسين الأوائل سيكتشف أنهم يختلفون مع بعضهم البعض كثيرا وقليلا. بل إن بعضهم نادي بعقائد غير سليمة مثل عقيدة المطهر مثلا، فقد نادي بعقيدة المطهر كل من القديس جيروم وأمبروسيوس ويوحنا فم الذهب وأوريجانوس. وهذا لايزعجنا لأنه يوجد وحي مقدس واحد هو كلام الله. أي الكتاب المقدس.

قد تكون هذه الكتابات مفيدة روحيا ولكنها لاترقي إلي منزلة الكتاب المقدس. وحي الله المنزه عن الخطأ. فإن كل كتاب المسيحية بلا إستثناء غير معصومين من الخطأ، أما كتاب الوحي فيعصمهم الروح القدس وقت كتابة كلام الله. فهل نساوي بين الإثنين؟ بالطبع لا.

آراء الآباء أنفسهم

ومن المناسب أيضاً، وإن كان موضوعنا لايتحاج إثباتات خارجية لأن الكتاب وحده كاف، أن نتعرف علي آراء بعض القديسين من القرون الأربعة الأولي قبل أي إنقسامات طائفيه:

رأي كبريانوس أسقف قرطاجنة:

كانت هناك مناقشة حامية الوطيس بين إسطفانوس الروماني والقديس كبريانوس عن الممارسات والترتيبات التي كان يرجع فيها إسطفانوس للتقليد:

فقال إسطفانوس "لا تدع شيئاً جديدا يغير ما قد تسلمناه (التقليد)"

فرد عليه القديس كبريانوس "من ماذا تسلمناه، أمن التقليد؟ هل أتي لنا من سلطان الرب والأناجيل ومن أوامر وكتابات الرسل؟ فالرب يقدم شهادة لأشياء يجب حفظها هي التي كتبت. لذا يقول ليشوع بن نون، لايبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج فيه نهاراً وليلاً، لتتحفظ للعمل حسب كل ماهو مكتوب فيه. ياله من عناد (عند الذي يتمسك بالتقليد) وياله من إقتناعات لادليل لها أن نفضل التقليد البشري علي الترتيب الإلهي، وأن لا نلاحظ أن الله يغضب علي التقليد البشري لأنه (التقليد البشري) دائما ما يضع جانباً كل تسلمناه من الله"

ويقول بعد ذلك أنه إن كانت قناة ما لاتعطينا مياه نقية جارية كما كانت، فلابد لنا من أن نذهب لمصدر المياه نفسه؛ لنري إن كان المصدر قد توقف أو أن القناة تسرب المياه أو مسدودة – لذا فيجب علينا أن نعود للنبع الأصلي الخاص بالناموس (العهد القديم) والأناجيل وتعاليم الرسل (الرسائل) لكي تكون مبادئنا نابعة من نفس النبع الأصلي.

رأي العلامة أوريجانوس

إن أوريجانوس لايسمح بأي معرفة خارجة عن الكتاب المقدس. وهناك ذبيحة السلامة فى سفر اللاويين والتي إن قدمت كنذر أو كنافلة (زائدة) يؤكل لحمها فى اليوم الذي تقدم فيه وفي اليوم التالي له، والباقي من اللحم لليوم الثالث لايؤكل لأنه يحسب نجاسة ويحرق بالنار. وعند شرحه إياها نفهم وجهة نظره من جهة التقليد. فهو يقول عن هذان اليومان

"هذان اليومان هما العهدان (أسفار العهدين القديم والجديد)، واللذان يمكننا أن نبحث فيهما ونناقش كل شيء يخص الله، ومنهما نستلم كل المعرفة عن كل الأشياء. وإن بقي أي شئ لم يكن فيه حكما نابع من الكتاب المقدس، فمن غير الممكن أن نستلم أي كتابات من مصدر ثالث لهما (للعهدين) كسلطة لأي معرفة (لأنه هذا يدعي اليوم الثالث)، بل فإن مايبقي (غير مؤيد بأي من العهدين) لابد أن ندفعه في النار للحرق، أي نتركه لله، لأن الله لايرضيه أن نعرف كل الأشياء هنا في هذه الحياة".

وغني عن البيان أنه وإن أختلفنا معه في تفسير ماهما اليومان في ذبيحة السلامة، فإن مايقوله عن الأشياء غير المكتوبة فى العهدان (أسفر الكتاب المقدس) يعبر عن رأي العلامة أوريجانوس في التقليد.

رأي العلامة ترتليان

في نقاشه حول أمر ما مع هرموجانوس يقول "ولكن أن كل الأشياء صنعت من مواد قائمة بالفعل لم أقرأ عن هذا بعد، لندع هرموجانوس يثبت أن هذا الأمر مكتوب، وأما إن لم يكن مكتوبا، فليخف (هرموجانوس) من الويل المقرر لمن يضيف أو يحذف (للمكتوب)" فهو إذن يقر أنه إن لم تكن هناك إثباتات مكتوبة لعقيدة ما، فمن يؤمن بها يعتبر أنه يضيف للمكتوب، ويستحق الويل المكتوب عنه في سفر الرؤيا.

رأي القديس باسيليوس

يقول القديس باسيليوس بخصوص العقيدة: "فلنؤمن بالأشياء المكتوبة وأما الأشياء التي لم تكتب فلا تطلبوها".

ويقول أيضاً "إنه سقوط واضح من الإيمان وثبوت لخطية الكبرياء، أن نتخطي أي من الأشياء المكتوبة أو أن نبتدع شيئاُ ليس من الأشياء المكتوبة".

وأيضاً "كل كلمة أو أمر لابد أن يعتمد علي شهادة الكلمة الموحي بها".

 "وليس من حق أحد أن يجرؤ علي تخطي أو إضافة أي شيء. لأن كل ماليس من الإيمان هو خطية، كما يقول الرسول، والإيمان بالخبر، والخبر بكلمة الله، (لذا) كل شئ خارج عن الكتاب المقدس، (حيث أنه إذن) ليس من الإيمان، (يكون) خطية".

رأي القديس أثناسيوس

يقول "لأن الكتب المقدسة الموحي بها كافية لإعلان كل الحق".

رأي القديس أمبروسيوس

يتسائل مستنكراً "كيف يمكننا أن نتبني أشياء ليس لها أثر فى الكتاب المقدس؟" والإجابة لايمكننا.

رأي القديس غريغورس النيسي

يقول "حيث أنه لادليل علي ذلك فى الكتاب، نحن نرفضه كأنه مزوراً".

رأي القديس جيروم

يقول "بخصوص تلك الأشياء المكتوبة، فنحن لاننكرها، أما الغير مكتوبة فنحن نرفضها"

رأي القديس أغسطينوس

وأما أراء القديس أغسطينوس بخصوص هذا الأمر فغنية عن التعليق فهو يقول
"هناك حد واضح يفصل كل الكتابات التالية للأزمنة الرسولية عن الكتب ذات السلطان القانوني للعهدين القديم والجديد. وقد إنحدر إلينا سلطان هذه الكتب من الرسل من خلال تعاقب الأساقفة وإمتداد الكنيسة. وبسبب سمو مكانة هذا السلطان يلتزم كل مؤمن وكل فكر تقي بالخضوع له. الكتاب المقدس له قدسية خاصة به. وبسبب هذه الميزة القائمة في كل الأسفار المقدسة فنحن ملتزمون أن نقبل كل ماتقدمه لنا أقوال الأسفار القانونية سواء كانت بفم نبي أو إنجيلي".

وأيضاً يقول "إني مديون بكل إقتناعاتي دون أدني شك للأسفار القانونية وحدها".

وحتي بخصوص المجامع المسكونية أو المحلية يقول "وليس علي أن أوجه أنظاركم لمجمع نيقية، ولا أنتم أن توجهوا نظري لمجمع أرمينيم (مجمع أريوسي كان فيه ثماني مائة أسقف)؛ (ولكن) بسلطة الكتاب المقدس دعونا نزن موضوعا بموضوعا، وحجة بحجة، وسبب بسبب".

وهذا الرأي السابق بديع إذ أنه يرفع الكتاب المقدس فوق حتى قرارات المجامع الكنسية.

وأما عن معلمي الكنيسة (الآباء) فيقول "فليس علينا أن نقتنع بجامعية الأساقفة إن تصادف أن إنخدعوا، وكان لديهم رأي معارض للأسفار القانونية التي من الله".

وهذا رأي بديع أيضاً إذ أنه يقول أنه حتى لو إجتمع الأساقفة على امر ما فمن الممكن أن ينخدعوا، وأنه علينا أن نحكم إن كان رأيهم معارض للأسفار القانونية أما لا.

ماذا تبقي لنا إذن؟ إن كان هذا رأي كاتبي التقليد أنفسهم في كتاباتهم وكتابات معاصريهم، هل لنا أن نجعل كتاباتهم في مرتبة أعلي من أو حتي مساوية لسلطة الكتاب المقدس؟ حاشا.

فاعلية الكتاب المقدس الخاصة

إن أي كتاب فى الدنيا لابد أن تفحصه وتتأكد منه هل هو صحيح أما لا فهاك الأمر الإلهي " امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالْحَسَنِ" (1تس5: 21). ولكن هناك كتاباً واحداً لا يمكنك أن تفحصه، بل أنت مطالب بأن تقبله فهاك الأمر الإلهي "اقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ" (يع1: 21). وليس ذلك فقط بل عليك أن تدع الكتاب المقدس يفحصك أيضاً. فيقول الرسول "لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضي من كل سيف ذي حدين وخارقة إلي مفصل النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته، لأن كل شيء مكشوف وعريان لعيني ذاك الذي معه أمرنا" (عب4: 12).

نعم أخي القارئ، يوجد كتاب واحد كل كلماته كلمات حية، وكلماته فعالة ولها تأثير علي حياتك، بل وتكشف وتميز أفكارك ونياتك. إذ هي كلمات الله الذي كل شيء مكشوف وعريان أمامه. لقد ساوي الرسول بين كلمة الله والله هنا، إن الكلمة تكشف تماما كما يكشف الله. ولاعجب فنحن نعلم أن المسيح هو "كلمة الله" فهل نساوي بين المسيح "كلمة الله" وكلمات أي أناس آخرين مهما كانت درجة علمهم وقداستهم؟ حاشا.

إذاً فالمؤمن:
1. يقبل الكتاب المقدس كأقوال الله دون فحص.

2. الكتاب المقدس يفحص المؤمن ويميز ما لديه من أمور تحتاج للتغيير.

3. المؤمن يفحص نفسه في ضوء الكتاب المقدس.

4. المؤمن يمتحن كل شيء بما فيه أي كتابات لأي بشر في ضوء الكتاب المقدس.

مثال: أهل بيرية

إن هناك أناس قد شهد لهم الروح القدس أنهم رائعين فى قبول الإنجيل وفي المعيشة به والشهادة له وهم أهل تسالونيكي. إسمع معي أخي القارئ تقرير الروح القدس عنهم علي فم بولس الرسول "بولس وسلوانس وتيموثاوس الى كنيسة التسالونيكيين في الله الآب والرب يسوع المسيح.نعمة لكم وسلام من الله ابينا والرب يسوع المسيح نشكر الله كل حين من جهة جميعكم ذاكرين اياكم في صلواتنا متذكرين بلا انقطاع عمل ايمانكم وتعب محبتكم وصبر رجائكم ربنا يسوع المسيح امام الله وابينا عالمين ايها الاخوة المحبوبون من الله اختياركم. ان انجيلنا لم يصر لكم بالكلام فقط بل بالقوة ايضا وبالروح القدس وبيقين شديد كما تعرفون اي رجال كنا بينكم من اجلكم. وانتم صرتم متمثلين بنا وبالرب اذ قبلتم الكلمة في ضيق كثير بفرح الروح القدس. حتى صرتم قدوة لجميع الذين يؤمنون في مكدونية وفي اخائية. لانه من قبلكم قد أذيعت كلمة الرب ليس في مكدونية واخائية فقط بل في كل مكان ايضا قد ذاع ايمانكم بالله حتى ليس لنا حاجة ان نتكلم شيئا. لانهم هم يخبرون عنا اي دخول كان لنا اليكم وكيف رجعتم الى الله من الاوثان لتعبدوا الله الحي الحقيقي. وتنتظروا ابنه من السماء الذي اقامه من الاموات يسوع الذي ينقذنا من الغضب الآتي" (1تس1: 10).

لقد كانت كرازة الرسول في تسالونيكي ليست بالكلام فقط بل بالقوة أيضا وبالروح القدس وبيقين شديد. وهم قبلوا الكلمة فى ضيق شديد بفرح الروح القدس وصاروا قدوة لجميع المؤمنين ثم نشروا وأذاعوا كلمة الرب (لاحظ كلمة وليس أفكار) في كل مكان. وذاع إيمانهم وإشتهر. بإختصار كانوا مؤمنون ممتازين.

ولكن هناك أناس أخرون يشهد عنهم الكتاب المقدس أنهم "وكان هؤلاء اشرف من الذين في تسالونيكي" (أع17: 11) ومن هم ياتري الذين أشرف من الذين قبلوا الكلمة فى ضيق شديد بفرح الروح القدس وصاروا قدوة لجميع المؤمنين ثم نشروا وأذاعوا كلمة الرب في كل مكان، وذاع إيمانهم وإشتهر؟ إنهم أهل بيرية. لماذا؟

يقول الكتاب "وكان هؤلاء اشرف من الذين في تسالونيكي فقبلوا الكلمة بكل نشاط فاحصين الكتب كل يوم هل هذه الامور هكذا" (أع17: 11) فهؤلاء البيريين سمعوا كلام الله من بولس الرسول، فذهبوا يفحصون كلام بولس الرسول فى ضوء الكتب المقدسة والتي في وقتها كانت مازالت العهد القديم فقط. ألم يكن لبولس الرسول سلطانا رسوليا؟ أي أعلي سلطان في الكنيسة من بعد المسيح بالطبع؟ نعم كان له. ألم يقول الكتاب أننا "مبنيين على اساس الرسل والانبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية" (أف2: 20)؟ نعم. كيف يفحص هؤلاء كلام الرسول؟ هل من حقهم؟ وعلي ماذا يفحصوه؟ ماهو القياس الذي رجعوا إليه وماهو مرجعهم في الفحص؟ إنه الكتاب المقدس.

هل هناك شك أن لبولس الرسول سلطة أعلي من كل من القديس كيرلس الكبير والقديس أثاناسيوس والقديس أغسطينوس وكل القديسين الأوائل وكل المسيحيين عامة فى كل العصور؟ دون أدني شك إن بولس الرسول هو المرجع وكلامه هو المرجع لأنه كلام الله.

إن مجرد إمتداح الكتاب المقدس لأهل بيرية علي هذا السلوك لهو ترخيص لكل المؤمنين بل هو أمر لكل المؤمنين أن لايأخذوا سوي مرجعاً أساسيا ذا سلطة أعلي واحد، ألا وهو الكتاب المقدس. وهو إيضا إقرار من الروح القدس أنه ليس لأحد ما سلطة علي الكتاب المقدس، بل  الكتاب المقدس هو السلطة الأعلي علي كل كتابات البشر. وتفحص في ضوء الكتاب المقدس كل الكتابات الأخري ويحكم عليها بواسطة الكتاب المقدس. وذلك ليس فقط بواسطة رجال الدين لأن إن أهل بيرية كانوا مؤمنين حديثي العهد بالإيمان ولم يكن فيهم من هو ذو وجاهة أو مكانة دينية أو سلطة كنسية. لذا علي كل مؤمن صغير أم كبير أن يرجع لكلام الله للحكم علي كل الامور وكل الأفكار وكل الكتابات الأخري.

مثال: الرب يسوع

وهناك حالة أخري فريدة في الكتاب المقدس، هي التجربة علي الجبل. ألا يملك الرب يسوع كامل السلطان ان يتكلم بكلام الله؟ بالطبع نعم. إنه هو الله. لذلك فإن اليهود "بهتوا من تعليمه لان كلامه كان بسلطان." (لو4: 32) وكان أيضاً بكل جراءة وقوة وثقة وإستحقاق يقول "سمعتم أنه قيل" (يو5: 21-43) ويتكلم عن وصايا الله في القديم ثم يعود فيقول "أما أنا فأقول" (يو5: 21-43) أي أنه كان يساوي كلمات الله في العهد القديم في سلطانها بكلماته في سلطانها وذلك لأنه هو الله.

ولكنه في التجربة علي الجبل جاء إليه الشيطان بآيات من الكتاب المقدس، لأن الشيطان يعلم أن الكتاب المقدس هو كلام الله وله تأثير علي الأتقياء، ولكن الشيطان كان يجيء بأشياء مأخوذه من سياقها الصحيح وفي معاني غير صحيحة، فما كان من المسيح له المجد إلا أن رد عليه من الكتاب المقدس أيضاً. فكان الشيطان يقول "مكتوب" ولم يرد المسيح عليه قائلا أنك لست تفهم المكتوب لأن المكتوب محتاج تفاسير من خارج توضحه بل كان يرد عليه قائلاً "مكتوب أيضا".

الحرفية والهرطقات

يقولون أيضاً أنه ينبغي لنا الرجوع للتقليد كمصدر أساسي للحكم علي مايريد الكتاب أن يقوله. فهم يدعون أن كل الهرطقات خرجت من الكتاب المقدس علي أساس أن المهرطقين كانوا يأخذون آيات من الكتاب المقدس دون الرجوع للتقليد لفهم معناها بل يضعون ثقتهم فى ألفاظ الكتاب.

ومثالهم الأشهر على ذلك هو عبارة "أبي أعظم مني" (يو14: 28) التي قالها المسيح. فالمهرطقون يستخدمونها لكي يثبتوا أن الإبن ليس علي مستوي لاهوت الآب. ولكننا نقول أن ذلك ليس عيبا فى الكتاب المقدس أو دقة ألفاظه أو إحتياجه لسلطة أعلي منه تفسره بل لأن المهرطق أخذ بمكتوب ولم يأخذ بما هو مكتوب أيضا مثل "أنا والآب واحد" (يو10: 30) أو "وكان الكلمة الله" (يو1:1) اللتان تؤكدان لاهوت الإبن وغيرها من عشرات الإثباتات.

وهناك تساؤل آخر هام في هذا المثل، هل لم يكن الرب يسوع المسيح دقيقاً في ألفاظه عندما قال "أبي أعظم مني"؟ حاشا. إن من يقول أن اللفظ غير مهم لأن الكاتب إختار لفظاً من عنده لفكرة من عند الله، ماذا يقول إذاً إن كان المتكلم هو الله نفسه؟ إن كان الرب يسوع هو الذي قال "أبي أعظم مني" من هو الذي من حقه أن يقول أنه لايقصد هذا الأمر؟.

ولكن بالرجوع لباقي أجزاء الكتاب المقدس نفهم من الرسالة للعبرانيين أن الرب يسوع المسيح "وضع قليلاً عن الملائكة" (عب2: 9) أي أنه في التجسد كإنسان لايظهر في ملء لاهوته المساو للآب ولايظهر في عظمة الآب رغم أنه "بهاء مجده ورسم جوهره" (عب1: 3) فهو "إذ كان في صورة الله .... أخلي نفسه" (في2: 6) من المجد وأخذ "صورة عبد" (في2: 7) ياله من إتضاع عظيم. ولكن المهم أننا لما يقول الرب "أبي أعظم مني" فهو يقصد ذلك حرفيا من وجهة معينة سوف نفهمها بالبحث والتنقيب في الكتاب المقدس. وليس المشكلة أبداً أننا لم نأخذ بروح المكتوب أو لم نأخذ بالتقليد ولكن المشكلة أننا لم نرجع لباقي أجزاء الكتاب.

الحرف أم الروح

وهناك أيضاً من يستخدم إحدي آيات الكتاب المقدس إستخداما خاطئاً لكي يدلل علي أن فهم الكتاب المقدس بطريقة لفظية حرفية غير صحيح. وهؤلاء يقولون أن بولس الرسول لما كتب "لا الحرف بل الروح. لان الحرف يقتل ولكن الروح يحيي." (2كو3: 6) كان يقصد أن لا ندقق في الألفاظ لأن هذا قاتل. وأن نأخذ بروح المكتوب أي بمعناه العام دون تدقيق في الألفاظ. ثم يدعون أن الآباء كانوا يأخذون بروح المكتوب وهذا ليس صحيحاً. وغني عن القول أن هذه مطالبة بالتفاهة والسطحية. وغني ايضا عن القول أن الرسول نفسه لم يتعامل مع الكتاب المقدس بهذه الطريقة.

ولكن إذا رجعنا إلي سياق الحديث نجد أن الرسول عندما كان يقول "حرف" كان يقصد وصايا الله المكتوبة علي حجارة، أي الناموس. فالناموس يحكم علي كل الناس بالموت، لأن الناموس وعد البشر أن من يفعل الوصية يحيا بها. وبالطبع لم يحيا أحد بالوصية فيقول عن الناموس أنه "خدمة الموت المنقوشة باحرف في حجارة" وأما عن العهد الجديد فيقول أن المكتوب الآن هو الإيمان في القلوب وليس الناموس في حجارة، لما يقول "انكم رسالة المسيح مخدومة منا مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي .لا في الواح حجرية بل في الواح قلب لحمية" (2كو3: 3) فالحرف هنا إذن هو مبدأ الناموس والروح هو مبدأ الإيمان القلبي بالرب يسوع المسيح وليس للكلام هنا أي علاقة من قريب او بعيد بألفاظ الكتاب المقدس. بل هو يقارن بين خدمة الناموس (الحرف) وخدمة الإيمان (الروح).

مثال للتعامل مع التقليد

وهناك فكر ساد في القرن الأول أن يوحنا الرسول لن يموت وذلك لأن المسيح قال عنه لبطرس الرسول "إن كنت أشاء أن يبقي حتي أجيء" (يو21 :22).

ولنسأل بضع أسئلة:

س: ماذا قال المسيح؟

ج: قال إن كنت أشاء أن يبقي حتي أجيء

س: هل كان يقصد "أنا أشاء أن يبقي حتى أجيء؟"

ج: لا بالطبع.

س: من هم الذين سمعوا هذه العبارة؟

ج: عدد قليل جداً من التلاميذ وجميعهم رسل موقرون وكاتبي وحي

س: ماذا فهموا من العبارة؟

ج: أن يوحنا الرسول لن يموت "فذاع هذا القول بين الاخوة ان ذلك التلميذ لا يموت." (يو21: 23)

س: هل كان هذا لأن قول المسيح غير واضح ومحتاج لشرح؟

ج: لا بالطبع

س: كيف تم تصحيح الوضع؟ هل كان بالرجوع لآراء وكتابات القديسين وقتها؟

ج: بالرغم من أن الكنيسة كانت في أزهي عصورها وكان الإخوة جميعا معاصرين لرسل المسيح جميعاً، إنتشر هذا الرأي وذاع. وكان يوحنا يكتب في نهاية القرن الأول  الميلادي. أي إنتشر رأي خاطئ لمدة تفوق الستون عاماً وكان كل ما علي المسيحين أن يفعلوه ليفهموا الحقيقة هو الرجوع لكلمات الرب الحرفية. فيوحنا الرسول صحح الوضع بأن أرجعهم للمكتوب فقال "ولكن لم يقل له يسوع انه لا يموت. بل ان كنت اشاء انه يبقى حتى اجيء فماذا لك" (يو21: 23) وطلب منهم  التدقيق في الألفاظ لأن الرب يسوع لم يقل أنه لايموت، أي لو شاء لكان قد قال لايموت، بل قال ألفاظا أخري معناها أنه لو يريد الرب أن يجعله يبقي فهو قادر علي ذلك.

نري من هذه الحادثة أنه من الممكن أن ينتشر تقليد خاطيء حتي في أزهي عصور الكنيسة حتي في وقت الرسل الكرام المعتبرين أعمدة ولكن لكي نحكم علي صحته كل ماعلينا هو الرجوع لكلمات وألفاظ الرب يسوع. او المكتوب الذي هو كلمة الله. فقد كان علاج التقليد الشفاهي وأخطاءه هو الرجوع لكلمة الله والتدقيق فيها وفي أحرفها الحرفية.

ومن باقي تعاليم الرب يسوع

"تتعدون وصية الله بسبب تقليدكم." (مت15: 3)

"فقد ابطلتم وصية الله بسبب تقليدكم" (مت15: 6)

"باطلا يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس. لانكم تركتم وصية الله وتتمسكون بتقليد الناس ..... حسنا رفضتم وصية الله لتحفظوا تقليدكم." (لو7: 7-8)

نري أيضاً أن من يضع ثقته الأولي ومرجعيته الأساسية في أي كتابات أخري غير الكتاب المقدس سوف يتعرض لمخاطر كثيرة.

إخوتي الأحباء، لنطرح جانباً أي شيء أخر غير  الكتاب المقدس، فالكتاب المقدس هو الميزان الذي يوزن به الحق. وليس لأحد سلطة فوق سلطته وليس لأحد سلطة مساوية لسلطته. "إلي الشريعة وإلي الشهادة، إن لم يقولوا مثل هذا القول، ليس لهم فجر" (إش8: 20).

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا