حقيقة المجيء الثاني للمسيح(3)

عقيدة المجيء الثاني للمسيح حقيقة لا شك فيها، ولأنها حقيقة مؤكدة، فقد أجمع عليها المسيحيون في كل العصور. وهذه الحقيقة معلنة بكل وضوح في الكتاب المقدس
16 مارس 2021 - 19:39 بتوقيت القدس

تحدثت في المقالين السابقين عن ثماني فرضيات خاطئة للتفسير التدبيري وهي أولاً: أن المسيح في مجيئه الأول لم يتمم نبوءات ووعود الله في العهد القديم. ثانياً: أن الكنيسة هي فترة معترضة في مخطط الله، ثالثاً: أن الكنيسة كانت سراً مخفياً في العهد القديم أُعلن في العهد الجديد. رابعاً: أن الكنيسة ستنتهي بالاختطاف السرّي. خامساً: أن الأسبوع السبعين من نبوءة دانيال سيتم بعد اختطاف الكنيسة. سادساً: أن نبوءة المسيح في بشارة متّى 24 ستتم بعد اختطاف الكنيسة. سابعاً: أن الكرازة ببشارة الملكوت هي خاصة بشعب إسرائيل. ثامناً: أن سفر الرؤيا هو سفر مستقبلي لم يتم في القرن الميلادي الأول. وسأتحدث اليوم عن الفرضية التاسعة. 

الفرضية الخاطئة التاسعة والأخيرة أن الملك الألفي هو خاص بشعب إسرائيل، يحقق فيه الله وعوده القديمة له، أو فرضية الملكوت المؤجّل. وقد بنى التفسير التدبيري هذه الفرضية على أساس أن المسيح عندما أتى في مجيئه الأول لم يحقق غرض الله بإنشاء الملكوت لشعب إسرائيل، والسبب لأن اليهود آنذاك رفضوا أن يملك المسيح عليهم، فأجّل الله الملكوت إلى عصر آخر هو عصر الملك الألفي. ولهذا ظهر ما يُسمّى بزمن الكنيسة الذي هو زمن مؤقت، أو فترة معترضة في مخطط الله. وهنا أريد أن أوضح أمراً هاماً للغاية أن بعض آباء الكنيسة الأوّلين الذين آمنوا بالملك الألفي الحرفي للمسيح، لم يكن عندهم البتة هذا الفكر التدبيري. فهم أولاً: لم يعتقدوا أن الملك الألفي هو لغرض تحقيق الوعود القديمة لشعب إسرائيل، وثانيا: لم يؤمنوا بفرضية الملكوت المؤجل التي تبنّاها التفسير التدبيري. وبعبارة أخرى كانوا يؤمنون بملك المسيح الحرفي مع الكنيسة على الأرض لمدة ألف سنة، ولم يربطوا هذا المُلك بموضوع تحقيق المواعيد لشعب إسرائيل. وهذا ما آمن به أيضا بعض اللاهوتيين في العصر الحديث ومنهم اللاهوتي جورج لاد، وهؤلاء يُعرفون بالألفية التاريخية. 

أناقش الآن موضوع الألف سنة كما ورد في سفر الرؤيا، الأصحاح العشرون. إن عدد ألف هو عدد مجازي، وليس عدد حرفي، يشير إلى فترة زمنية كاملة. ولقد رأينا عدد ألف يظهر أولاً في الأصحاح السابع عندما تحدّث عن المختونين المئة والأربعة والأربعين ألفاً. إن عدد 144 يشير بوضوح إلى عدد شعب الله، المجموع من أسباط إسرائيل الاثني عشر وتلاميذ المسيح الاثني عشر. فهو نتاج ضرب 12 في 12. وعندما يصبح العدد مئة وأربعة وأربعين ألفاً فهو يشير إلى عدد شعب الله الكامل، المؤلف من اليهود والأمم.  

هناك نقطة هامة أخرى بالنسبة للألف سنة الواردة في الأصحاح العشرين. فلا نجد هنا حديث عن اسم أرض معينة أو حتّى ذكر لشعب إسرائيل أو للهيكل، فكيف يكون هذا المُلك تحقيقاً لمواعيد الله لشعب إسرائيل مع عدم وجود أي ذكر له؟ ولا إشارة أيضاً لانتشار السلام في العالم، وإلى سيادة العدل أو الرخاء الوفير، وانقضاء الآلام والأمراض، أو أنه العصر السعيد، وهذا ما يؤكد عليه التفسير التدبيري. مع العلم أن العروش المذكورة في هذا الأصحاح نراها تملك مع المسيح من السماء، كما يرجّح البعض. أنا لست هنا الآن بصدد شرح مفصّل لموضوع الألف سنة، لكنني أُفند الادعاء أن المُلك الألفي هو مُلك خاص بشعب إسرائيل لتحقيق وعود الله له. أو أن ملكوت الله قد تأجّل بسبب رفض اليهود للمسيح.

لقد تبين لنا من دراستنا خطأ كل الافتراضات التي وضعها التفسير التدبيري وبشكل واضح. فقد أتى المسيح وتمّم كل نبوءات ووعود الله في العهد القديم، وهذا ما أكّده لتلميذي عمواس أولاً، ثم لباقي التلاميذ. مع العلم أن تلميذي عمواس صرّحا للمسيح قائلين: «ونحن كنّا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل»، أي أن يحقق لنا رجاء إسرائيل بالمُلك. لكن المسيح أجابهم وقال بعدئذ للتلاميذ مجتمعين: «أنه لا بدّ أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب»(بشارة لوقا21:24، 25-27، 44-49). أي أنّ كل نبوءات ووعود الله قد تمّت في مجيئه الأول. ولقد كرز المسيح كما هو معروف بملكوت الله، وبقي أربعين يوماً بعد قيامته يتكلم للتلاميذ عن الأمور المختصة بملكوت الله(أعمال الرسل3:1). فإذا لم يكن هذا الموضوع هو أحد الأمور الأساسية التي حققها في مجيئه، فلماذا صرف المسيح معظم وقته بعد قيامته يتحدث عنه؟ وها هو الرسول بطرس يُعلن لليهود في موعظته الأولى يوم الخمسين أن المسيح بقيامته من بين الأموات قد جلس على كرسي داود، أي حقّق ملكوت الله الذي كان ينتظره شعب إسرائيل(أعمال الرسل30:2-31، 34-36). وهناك شواهد أخرى عديدة تؤكد هذا الأمر، أتيت على ذكرها سابقا. مع العلم أن رجاء الكنيسة كما هو واضح في كل كتب العهد الجديد كان دائماً التطلّع إلى الملكوت الأبدي, وليس إلى ملكوت أرضي مؤقت. أجل، لقد أُعلن ملكوت الله بمجيء المسيح، وتحقق بقيامته الظافرة وصعوده حيّاً إلى السماء وجلوسه عن يمين عرش الله، حيث يملك ملكاً روحياً على أولاده المؤمنين. 

لكن ما هو المفهوم الصحيح لموضوع المجيء الثاني للمسيح؟ لعلّ أهم نقطة في دراستنا الحالية أنه سيكون هناك مجيئاً واحداً وليس مجيئين. لا يوجد في كل العهد الجديد أية إشارة أن مجيء المسيح سيكون على مرحلتين، الأولى مجيء للكنيسة بالاختطاف السرّي، وآخر لشعب إسرائيل بالاستعلان، في نهاية السبع سنوات. وقد تأملنا بفرضية الاختطاف السرّي الخاطئة وبيّنا عدم صحتها كتابياً، فأرجو مراجعة المقال الأول. 

ومع وجود أدلة كتابية عديدة وواضحة، لكني أحب أن أنوّه للقارئ بشاهد كتابي يؤكد عن هذا المجيء الواحد. ففي رسالته الثانية إلى تسالونيكي كتب الرسول بولس قائلا: «إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقاً. وإياكم الذين تتضايقون راحةً معنا عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوّته، في نار لهيب معطياً نقمة للذين لا يعرفون الله والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح، الذين سيُعاقبون بهلاك أبدي من وجه الرب ومن مجد قوّته. متى جاء ليتمجّد في قديسيه ويُتعجَّب منه في جميع المؤمنين»(2تسالونيكي6:1-10). يبدو واضحاً من هذه الآيات أنه سيكون هناك مجيء واحد هو الاستعلان، حيث يدين الله الأشرار بهلاك أبدي، وفي نفس الوقت ينقذ المؤمنين ويعطيهم راحة، عندما يتمجّد في وسطهم، ويكون موضع العجب عندهم. وبالطبع سيدخلهم الله إلى الملكوت الأبدي. سأتابع الحديث عن هذا الموضوع الهام في المقالة الرابعة والأخيرة إن شاء الله. 

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا