عبر صفحات الكتاب المقدس نقرأ عن كثيرين تركوا بيت أبيهم وذهبوا ليُقيموا في كورةٍ بعيدة. في الكورة البعيدة حاولوا ان يَبنوا لانفسِهم بيتًا ويصنعوا تدبيرًا لتسديد الاحتياجات، ولكن الواقع صَفع في وجوهِهم بعتابٍ شديد: انتم في المكان الخطأ، وفي الحالة الخطأ. توبوا وارجعوا الى بيت الآب.
نُعمي امراةٌ تقيةٌ أطاعت رجلها اليمالك عندما قرّر ان يترك بيت لحم ويذهب الى بلاد موآب. بيت لحم هو بيت الخبز والشبع (وهذا معناه الحرفي)، الخبز الذي يوفّره الآب المُحب على اساس نعمته وجوده. موآب معناه "اي أب"، ومن الطبيعي ان يختبر الابن هناك فقدان حضن ابيه الدافئ.
لكن نعمي اطاعت رجلها. لم تُناقش ولم تَعترض. قال لها رجلها: "هناك افضل"! نعم، سنتغرّب هناك لكنني اعدك انه سيكون لنا خير. سنُحافظ على علاقتنا بالهنا، سنصلّي له كل يوم لكي يباركنا ويوسّع تُخومنا هناك.
نظرتْ اليه نعمي بعيونٍ ملانة حيرة وقالت له: "يا اليمالك، زوجي وتاج رأسي، هل انتَ متاكد من قرارك؟" اجابها بكلّ تاكيد: نعم يا غاليتي، هذه هي مشيئة الرب!
وهكذا، ذهب اليمالك هو وامراته وابناه ليتغرّب في موآب.
في موآب التفت اليمالك الى واقعه الجديد فرأى ما اخافه وأطار النوم من عينيه. ابنه الاول مريض، وحالته لا تسر القلب (اسمه محلون: ومعنى اسمه، مرض). وابنه الثاني تملّكَهُ الضعف حتى بدا انه يَفنى من الوجود (اسمه كليون: ومعنى اسمه، فناء)! تابعَ اليمالك بعينيهِ القلِقتيْن ليرى جوانب بيته ومسكنه الجديد فلم يرى ثمرا، مع انّه افراتيٌ (معنى كلمة افراتي: مُثمر)، وتلاشى جوّ التسبيح والفرح (مع انّه من بيت يهوذا، ومعنى كلمة يهوذا: تسبيح وهتاف).
قالت له زوجته: انا معك في الحياة والموت. لكنها تابعت متسائلة: ماذا انت ترى؟ قال لها: لا تخافي، الامور ستسير الى الافضل. نحن نثق بالهنا الصالح.
لكن، الامور سارت بعكس مُشتهيات القلب. ضعفٌ في العائلة، تعبٌ ومشقات، حيرةٌ وتساؤلات، وايضاً موتٌ ورقاد.
كان صوت الله ينادي بكل وضوح: عودوا الى حضني! عودوا الى بيت لحم لتتمتّعوا بخيراتي! لكن الاذان لم تكن مُستعدّة بعد لسماع ايّ صوت يَدين موآب وبيئتِها.
ومات اليمالك! ومات ابناه كلاهما! وبقيت نعمي وحدها. وفي وحدتها ومرارة قلبها تذكّرت فرح الرب في بيت لحم وجودِه الجزيل. تذكّرت وتأوّهت في قلبِها، وأخذت الخُطوة التي كان الرب ينتظرها: فقامت ورجعت من بلاد موآب الى بيت لحم.
في طريق العودة سمعت صوت الله يقول لها: لم اتوقف لحظةً عن النظر اليك والى عائلتِك عندما كنتِ في موآب. كنت اسَيّر الظروف بحسب سُلطاني لكي تلتفتوا الى مشيئتي وتعودوا الى بيت لحم. وها انت الان في طريق العودة. لا تخافي، انا معك. ساعود واباركك، واجعلك مثمرة (افراتية) واداوي جرحك واعوّضك عن خسارتك، وعن السنين التي اكلها الجراد.
الى كل متغرب عن "بيت لحم" اقول:
كما كان الحال مع نعمي، الرب يخاطبك الان: يا نعمي، عودي من ارض موآب! فان الله الآب المحب ينتظر عودتك الى حضنه الدافئ. هيا لا تؤجلي.