يذكر الكتاب المقدس عدة أعياد ميلاد ولكنه لا يذكر عيد مولد السيد المسيح ولا يحدد وقت ميلاده. وعادة ترتبط أعياد الميلاد المذكورة في الكتاب المقدس بحزن وترح. ففي يوم ميلاد فرعون صنع وليمة وأكرم أحد موظفيه إذ اخرجه من السجن وأعاد له مركزه ولكنه في ذات الوقت قتل موظف آخر (تك 40: 20 – 22). وفي يوم ميلاد هيرودس فرح بعض الناس برقص صبية فاتنة ولكن آخرون اغتموا بسبب طلبها أن يُقطع رأس يوحنا المعمدان. الصورة الكتابية القاتمة ليوم ميلاد الإنسان تظهر بشكل أوضح عند النبي ارميا الذي لعن يوم ميلاده (تك 20: 14 – 18) أو عند أيوب الذي سب يوم ميلاده (أي 3: 1 – 12). في ضوء هذه الصورة السلبية لأعياد الميلاد المذكورة في الكتاب المقدس وفي ظل غياب أي ذكر لعيد مولد المسيح في العهد الجديد، لماذا يحتفل المسيحيون بعيده في 25 كانون الأول من كل عام؟
في الواقع، لا يعرف أحد زمن ميلاد المسيح ولا يوجد أي دليل لاحتفال المسيحيين بعيد ميلاده قبل القرن الثالث. فما هي قصة هذا الاحتفال؟ يتحدث المؤ رخون عن بداية احتفال الميلاد سنة 336 م. في روما. وتختلف التأويلات المتعلقة ببداية احتفال الميلاد إلا أن التفسير الشائع هو ارتباط احتفال الميلاد بعيد وثني. وهو عيد ميلاد الشمس التي لا تقهر، ولقد ارتبط هذا العيد بعبادة ميثرا إله الحرب. واحتفل الوثنيون فيه بعدم قدرة الشتاء على قهر الشمس وعدم تمكن الظلام من حبس اشعتها التي ما زالت تسطع. واستطاع المسيحيون أن يحولوا العيد الوثني إلى عيد كنسي يسلطون فيه الضوء على الله الظاهر في الجسد. ورأى المسيحيون أن نور المسيح والمسيحية انتصر على ظلمة الشر إذ اشرقت شمس البـر بحسب النص القائل: "ولكم أيها المتقون اسمي تُشرق شمس البـر والشفاء في أجنحتها" (مل4: 2).
وفي بداية القرن السابع عشر، احتدت الخلافات الكنسية فاتهمت بعض الكنائس الانجيلية (التطهيريون والمشيخيون في اسكتلندا) الكنيسة الكاثوليكية أنها اخترعت عيد الميلاد لتبـرر الإسراف في الأكل واللهو. وعندما سيطرت الحركات التقوية على بعض المواقع في أمريكا الشمالية فرضت غرامة مالية على كل من يحتفل بعيد الميلاد. وقاطع العديد من الأنجيليين (المشيخيون، حركة الكويكرز، المعمدانيون، والميثودست) احتفالات عيد الميلاد. وفي سنة 1644 أعلن البرلمان الأنكليزي يوم 25 كانون الأول يوم صوم وتوبة مانعين الاحتفال بعيد الميلاد.
هذا الموجز التاريخي يعرض أمامنا توجهين. ينادي التوجه الأول بتحويل الاحتفالات الشعبية والوثنية إلى احتفالات مسيحية. ويظهر هذا التوجه انفتاحا للتفاعل مع تقاليد الناس وإعادة صياغة ثقافاتهم في ضوء معرفة المسيح. وقد يقود الانفتاح إلى بركة عظيمة للمجتمع فيجد المجتمع المسيح ويتبنى قيمه السامية. في ذات الوقت قد يقود انفتاح الكنيسة بصور خاطئة إلى المساومة على أسس الإيمان الصحيح. ولهذا ينادي التوجه الثاني بمقاطعة احتفالات الميلاد مؤكدا على أهمية الطهارة المسيحية إلا أن هذا التوجه ربما يعزل المسيحيين عن المجتمع ويجعلهم فئة غير مؤثرة في صياغة ثقافته. فما هو التوجه الأفضل؟
في الختام، لم أقدم في هذا المقال أجوبة صريحة. ولكنني أقدم أسئلة للقارئ والقارئة. أولا، هل سنتخلى عن الميلاد بسبب أصوله غيـر المسيحية؟ وهل سنعتزل عن مجتمعنا زمن الميلاد أم سنكون جزءا من الصراع الثقافي والتطور (أو الانحدار) الاجتماعي. فهناك من يحاول أن يجعل عيد الميلاد مسيحيا وآخرون يحاولون أن يجعلوه وثنيا إذ ينزعون ذكر المسيح ويبعدوا عنه. وهل ستستطيع الكنيسة أن تحافظ على العناصر المسيحية زمن الميلاد وهل ستكون قادرة على مواجهة التحدي الوثني وتزود قوالب فكرية واجتماعية وثقافية متغلغلة في الفكر المسيحي ومؤثرة في المجتمع؟ أم أنها ستنعزل عن حوار المجتمع وتخلي الساحة لسيطرة الوثنية على عقول الناس وقلوبهم.
كل عام وأنتم بخير