يُحكى عن حكيم، من مواليد هذه الديار وحكمته فاقت كل مقدار. من اليوم الذي تعرف على طريق الايمان، عرفه كل من زار الكنائس، وكل من شارك على منابر، خفيف الدم طريف ونهفاته فاقت كل تعبير.
حكيم، هو شاب كبير وشيخ صغير، يحبه الكبير والصغير. في هيئته هيبة الشيخ وفي طبعه طرافة الطفل، لكن أجمع الجميع على أن يسموه حكيم، ولم يعد يذكره أحد إلا بأسم حكيم، حتى هو بنفسه، أصبح ينظر المرآة يوميًا ليؤكد أنه حكيم. تركيبته عجيبة يجمع بين اللطافة والطرافة، والمعرفة والحكمة، وقوة الشخصية، لكن في بعض الأحيان تختلط عليه الامور ، ليصبح خشنًا، بليدًا، ساذجًا وضعيفًا، ليمثل في كل رواية من رواياته حالة. فهو خليط مني ومنك ومنهم ومنّا. فهو أنا وأنتَ وأنتِ وأنتم وأنتن... نحن جميعًا.
استيقظ حكيم صباح يوم الأحد، وبعدما تناول طعام الفطور مع أمه، ثبّت عينيه نحو الكنيسة. كان متحمسًا كعادته ووصل إلى الكنيسة قبل بدء الاجتماع بكثير، فسلم على الإخوة والأخوات وجلس في مكانه. كانت عظة ذلك اليوم بعنوان "المسامحة والغفران بين الإخوة والخلاّن". فقرر حكيم في ذاته أن يغفر لجميع من أساؤوا إليه. انتهى الاجتماع فسلم حكيم على الإخوة وطفق عائدًا إلى البيت، وقد ظن أن نهاره الروحي قد انتهى، لكن صديقه سليم عاجله باقتراح مغرٍ، قال :"هلم نزور الكنيسة الفلانية فهناك بركة في اجتماعاتها المسائية".
وحظي حكيم بسماع عظة أخرى بعنوان "التفكير المتفائل يحل جميع المشاكل"، فتفاءل حكيم بالعظة وتأمل خيرًا وعاد إلى بيته أخيرًا.
فكان مساءٌ وكان صباحٌ وجاء يوم الاثنين. أمضى حكيم يوم عمله يلهج بما تعلّم بالأمس وعقد العزم على تطبيقه فور وصوله إلى البيت. وما إن وصل حكيم إلى البيت، حتى وجد صديقه أمين في انتظاره.
صاح حكيم بفرح: "أرسلك الرب لتساعدني على تطبيق ما تعلمته في الأمس." أما أمين فقال بهدوء: "لا بل جئت لأصطحبك معي، إلى الكنيسة العلانية حيث تُعقد اجتماعات انتعاشية، فيها دعوات خلاصية، وصلوات شفائية، وعظة سماوية بعنوان "ازرع بذرة الإيمان فيكافئك الله المنّان"!" فقال حكيم في ذاته: "حتمًا يريد الرب أن يدربني في حقّه قبل أن يُرسلني إلى حقله!"
وكان مساء وكان صباح وجاء يوم الثلاثاء، ثم الأربعاء وتوالت الأيام وحكيم لا يزال على ذات المنوال: يلهج في "كلام الرب" في الصباح وينوي تطبيقه في المساء، فيباغته صديق بدعوة إلى أمسية كرازية، وتلح عليه أخت ليحضر سهرة روحية، ويوصيه قسٌ بسماع عظة له نارية، وينصحه شيخٌ بالمشاركة في حلقة كتابية، ويذكّره أصدقاء الفيسبوك أن لا يُهمل متابعة البرامج المسيحية على القنوات الفضائية.
وكان مساء وكان صباح، وجاء يوم السبت. فاستراح حكيم من أعمال ذلك الأسبوع، ولازم الفراش وأغلق هاتفه النقال وقال في نفسه: "لن أحضر أي اجتماع اليوم حتى إن أجبروني على ذلك، يريدني الرب أن أرتاح لكي أستطيع مواصلة "خدمتي" له في الأسبوع المقبل …" وفيما هو يتلذذ في خواطره المريحة، سمع حكيم قرعًا على الباب وضجة وجلبة في الخارج جعلتاه يقفز من فراشه، فتوجه نحو باب البيت فوجد أن أمه قد سبقته إليه وعلى وجهها ابتسامة عريضة، فعندما رأت ملامح الذعر باديةً على وجه حكيم طمأنته قائلةً: "لا تخف يا بُني فقد دعوتُ جميع الجيران في حارتنا لحضور اجتماع روحي في بيتنا. فقد رأيت أنك تعبت الأسبوع كله، فقررت أن أريحك من عناء الذهاب إلى أي مكان آخر، وبما أنك قد خزّنت كلمات الرب في ذهنك، فسأفتح الباب لجيراننا ليدخلوا ويسمعوا كلمة الرب على فمك!"
وبالرغم من ذعره الشديد واستيائه من قسط الراحة القليل الذي ناله، شكر حكيم الرب على الفرصة التي سنحت له، وحاول أن يراجع ما قد تعلّم في الأيام السابقة فوجد أنه نسي مضمون المشاركات واختلطت عليه الشواهد والآيات وتداخلت عناوين العظات بمطالع الترنيمات، فتحيّر بُرهةً وجلس في مجلسه متقلقزًا فهو لم يستذكر شيئًا واستدرك فجأةً ثم تنحنح وقال: "لقد كلمني الرب، كذا، من هذه الآية من سفر الأمثال الإصحاح الخامس والعشرون والعدد السابع عشر لنقرأها معًا:" "اجعل رجلك عزيزة في بيت قريبك لئلا يمل منك فيبغضك!" ففهم الجيران الرسالة وغادروا واحدٌ تلو الآخر … ففرح حكيم بأن الرسالة قد وصلت وشكر الرب الذي "أتاح" له أن يرتاح.
ولكن كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط خادعين نفوسكم
يعقوب 1 : 22