الإيمان المسيحي وحيدا في مواجهة اللاّمعنى

“الله هو الذي يعطي للقيم معناها، الله هو الذي يعطي للوجود معناه، بدونه لا معني للوجود، لا معني للقيم، وبديله هو العبث، واللا معنى.”
16 نوفمبر 2020 - 11:06 بتوقيت القدس

اللّامعنى أصبح في عصرنا الحالي غاية الوجود وهدفه الأوحد. كل شيء من حولنا يوحي باللّامعنى: ظلم الفقير والضعيف أفرادا وجماعات وشعوبا تباع وتشترى في سوق النخاسة الجيوسياسية والجيوستراتيجية. بلدان تتآكل دولتها وتضعف ويستأذب شعبها فيتناحر أفراده وتنتشر فيه أوبئة الجريمة والمحسوبية والدعارة.

في هذا العالم ترتفع نسبة الإنتحار في نصفه الشمالي تحت وطأة اللامعنى وتغريب الإنسان عن الهدف الأساسي من وجوده وهو الإتحاد باللّه.

يطبق اللامعنى اليوم فكّيه على العالم ويرخي ليل الضياع سدوله على الكون ويحاصر ضباب الهرطقات والأفكار الهداّمة الواعظ المسيحي فيهيم حائرا، ولسان حاله يقول: "هل أستسلم لفكر العالم أم أقاوم كما قاوم سيّدي ومخلّصي يسوع المسيح؟".

هنا تأتي صرخة الواعظ الإنڨليزي الشهير ليونارد ريفنهيل وهو يبكي في أحد عظاته: "أؤمن أنّ أكبر مأساة في عالم اليوم هي كنيسة مريضة في عالم يُحتضر". لكي نفهم هذه الصرخة علينا أوّلا أن نفهم طبيعة اللامعنى الذي يحيط بنا من كلّ جانب، ليضيّق على الإيمان المسيحي الخناق مخترقا إياه من الدّاخل ممزّقا النسيج الكنسي بين مؤيد و معارض. 

إذا قلنا بأنّ الله هو معنى الوجود، ذلك بأن الله هو واحد ذو وحدانيّة بسيطة وليست مركّبة، وبالتالي فإن مايخالف الله هو اللامعنى وهو يحمل صفات معاكسة للتي لله. فاللامعنى منقسم على ذاته لا وحدانية فيه ولا إتحاد، إنه كمجموعة من الخلايا السرطانية يأكل بعضها ولا تتحد فيما بينها إلا في معاداة المعنى.

اللامعنى المهيمن في عالمنا اليوم منقسم إلى أربعة أنواع:

أوّلا، اللاّمعنى الإلحادي أو الوجودي: لا يوجد إله ولاغاية من الوجود. الهدف من الوجود هو ما يضعه الإنسان لذاته فالإنسان ليس سوى مجرّد حيوان ذكيّ لا قيمة له في ذاته ولا حياة بعد موته وكلّ شرفه هباء ذلك بأن الخلود محال. هنا ينقسم هذا اللامعنى على ذاته فمن أتباعه من يدخل في حالة قنوط ونوع من التصوف القائم على العبثية مثل الفلاسفة ألبار كامو، إميل سيوران، وجون بول سارتر.. ومنهم من يجعل هدفه في الحياة واحدة من هذه الثلاثية الخطيرة: مال، سلطة، جنس... ومن هنا تخلق الصراعات حول الهوية الجنسية حيث تنحصر ماهية الإنسان وكينونته في بوتقة ميولاته الجنسية ويشتد الصراع حول السلطة والحكم في العالم وبين أفراد المجتمع الواحد بما في ذلك السلطة الرمزية كالشهرة وغيرها قد يصل الأمر بالإنسان إلى أن تصبح غاية وجوده على الأرض في أن يكون الممثل/ة الإباحي/ة الأغلى أجرا في العالم.

ثانيا، اللاّمعنى الإسلامي: حيث يأخذ اللامعنى صورة المدافع عن الله ويصبح القتل بوحشية لا ترقى إلى أن تكون وحشية حيوانية، عنوان الغيرة على الله وعلى رسوله إلى درجة تجعلنا نخال أن إله هذا الدين لا يمكن أن يكون إلا إلها عاجزا قد أوكل أمر حمايته إلى فئة من المسلمين داعيا إياهم لنصرته. حتى إذا ما ناصروه كافئهم بالحوريات وأنهار من خمر وعسل و"فياغرا" طبيعية تمنحهم قوة مئة رجل في الجماع. هذا الإله الكاريكاتوري الذي يجرّ بذيله قسما كبيرا من البشرية، مختفيا وراء قناع بلاغي وقناع شراعي وأقنعة سياسية وإديولوجية، لا يزال ينمو في الغرب ويحكم قبضته الدموية على الشرق. نتبين هنا أن لا فرق بين أتباع هذا الإله وبين أتباع اللامعنى الوجودي: حيث يًقبل العبثيّ على اللّذة في هذا الزمن بينما يجعلها المسلم أبديّته. ويصبح "المعنى" الذي يعيش من أجله أتباع هذا الإله الكاريكاتوري هو الإعلاء من شأن الذات وإتهام كل مخالف بالزندقة والكفر وتحليل دمه وماله وعرضه.

ثالثا، اللامعنى الروحي والأخلاقي: إن ديانة العصر الجديدThe New Age هي في كنهها تشبه فيما تشبه التوجه الجنساني العام في عصرنا اليوم. حيث أن الكثيرين يريدون ممارسة الجنس دون تكبّد عناء الدّخول في علاقة عاطفية أو إلتزامات الزواج. هكذا هم أتباع ديانات العصرنة واليوچا والتأمل التجاوزي والإسقاط النجمي وغيرها: إنهم يريدون روحانية خالية من العلاقة مع الله، روحانية خالية من التلمذة الروحية للمسيح والإلتزامات الأخلاقية، روحانية لا تعترف بأن يسوع المسيح هو الطريق بل ترى في "الطاقات الإيجابية" طريقا لعبادة "كونية". يكمن اللامعنى هنا في كون هذه الديانات تتناقض جوهريا مع مبدأ الروحانية والحرية: الإنسان بالنسبة لهؤلاء ليس سوى "مستقبل طاقي" لطاقات إيجابية أو سلبية إنه لا يملك الخيار كما أن حياته على الأرض ليست سوى "إعادة تجسد" لشخص آخر في حياة سابقة وقد تكون له حياة لاحقة محكومة "بالعود الأبدي". الإنسان ليس صورة الله بالنسبة لأتباع هذا الصنف من اللامعنى إنّه مجرد بطارية عليها أن تتعلم كيف تشحن ذاتها وتوحد طاقتها مع طاقة الكون. 

هذا دون أن ننسى طبعا اللامعنى الأخلاقي كقتل الطفولة في الأرحام من خلال الإجهاض والتشكيك في الهوية الجنسية لدى الأطفال ومنح المثليين حق التبني وملايين الشباب عبر العالم الرازحين تحت وطأة الإدمان على المخدرات والكحول والأفلام الإباحية وسياسات تكميم الأفواه تجاه كل من يعارض هذه التوجهات الحاملة في طياتها إنتحارا حضاريا حتميا للإنسان والإنسانية.

رابعا، اللامعنى الكنسي: رأينا في الأنواع الثلاث السابقة من اللامعنى: أن الإنسان مجرد حيوان ذكي في النوع الأول، و في النوع الثاني هو عبد متدرّب على قتل من ينتقدون سيّده ليكافئه هذا الأخير بجنّة يطلق فيها العنان لتلبية شهواته وفي النوع الثالث أصبح الإنسان مجرّد بطّاريّة يجب شحنها بطاقة إيجابية. 

هذا النوع الرابع هو النوع الأسوأ على الإطلاق، إذ أنه يخلط الإيمان الصافي بالإله الحقيقي وهو المعنى الحقيقي للوجود بكلّ ما سبق من اللامعنى وهذا ما يضعف عمل الكنيسة على الأرض ويشتت قوتها فيسلبها وحدتها ويغرق أعضاءها في أحد المستنقعات التالية: 1/ مستنقع خلط الإيمان السليم بالأفكار العصرية: هناك كنائس ولاهوتيون وجماعات مسيحية وقعت في هذا المستنقع و ما نراه اليوم من مسيحيين وكنائس قبلت بزواج المثليين بل و تولي مثليين قد أعلنوا مثليتهم مناصب كنسية لمثال على هذا السقوط الخطير. 2/ الحياة المزدوجة: كثيرون من المسيحيين من مختلف الكنائس يعيشون حالة الحياة المزدوجة فهم "يعترفون أنهم يعرفون الله لكنهم بالأعمال ينكرونه". قد تجد من هؤلاء من هو متمكن في التعليم الكنسي لكن حياته الأخلاقية مليئة بالنجاسة و الخطايا. 3/ الإعتراف الضمني بالديانات الأخرى: الإعتراف أن لله طرقا أخرى غير الطريق الواحد والوحيد يسوع المسيح هو إنكار لا فقط للإيمان المسيحي بل وأيضا إنكار لصلاح الله: حيث يصبح الله شخصا مجنونا يفعل الشيء ونقيضه فيأمرنا بإتباع المسيح ثم يأمرنا بإتباع شخص آخر تتناقض تعاليمه مع تعاليم المسيح. الإعتراف الضمني بالديانات الأخرى مخالف للمبدء الأول من مبادئ التفكير البشري وهو مبدأ عدم التناقض.

"إلى الشريعة وإلى الشهادة إن لم يقول مثل هذا القول فليس لهم فجر!" (إش 20:8) علّمنا يسوع المسيح "أن الذي فيكم أقوى من الذي في العالم". تلك القوة التي غيرت التاريخ بين يوم الجمعة العظيمة وبين أحد القيامة هي نفسها التي نزلت يوم الخمسين على مريم العذراء والرسل وهي نفسها الموجودة إلى اليوم في الكنيسة، ذلك بأن إلهنا "هو هو الأمس واليوم و إلى الأبد". علينا أن ننزع الحجر ونرفع المعاثر حتى تتجلّى هذه القوة في التاريخ البشري من خلالنا وبنا. حتى و إن كنا وحيدين أمام ظلام اللامعنى الدامس الذي يلفّ العالم اليوم فإن نور المسيح سيد التاريخ وغايته قادر على أن يبدد ظلمة اللامعنى كما يتبدد الضباب أمام توهج الشمس بعد بزوغها. 

بينت الإنتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة أن اللامعنى متناقض ومتناحر في ذاته لكن مصدر وحدته الأوحد هو معاداته للإيمان المسيحي ولجميع الكنائس كاثوليكية وأورثوذكسية وبروتستانتية ولكل من يؤمن بلاهوت يسوع المسيح.  

الكرة في ملعب المسيحيين، إما التوبة والعودة إلى الله وإنفتاح القلب على النعمة وشركة الروح القدس والتمسك بالمسيح وعروسه الكنيسة عقيدة وسلوكا والشهادة الكاملة للحقيقة. أو الإضطهاد و التصفية. "توبوا و آمنوا بالإنجيل".

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا