إن غاية العهد القديم هي المسيح. فكل ما فيه يدل عليه ويرمز إليه وينتظره، بل هو موضوعه (رومية 10: 4؛ لوقا 24: 27). ولهذا نرى نحن المسيحيين آثار يسوع وبصماته في العهد القديم ظلالاً ورموزاً لما قام هو به بشكل فعلي خلال أيام تجسده بين شعبه. وأود أيضًا التنويه إلى أن الأتقياء في العهدين القديم والجديد هم شعب واحد، وأنّ ما يجمعهم هو نظرتهم إلى شخص الفادي يسوع المسيح. نظر أتقياء العهد القديم إلى المسيح على أنه الرجاء، ورأى أتقياء العهد الجديد في يسوع المسيح تحقيق الرجاء ذاك. لقد جمع الله في كنيسة المسيح، ابنه، في العهد الجديد المؤمنين به كلهم. ولذلك نستطيع أن نقول إن المؤمنين بالمسيح، بغض النظر عن خلفيتهم، سواء أكانوا يهوداً أم من بقية الشعوب، شعب الله المختار المفدي وأولاد الموعد. لأن الوعد صار لنسل إبراهيم وليس "لأنسال". أي أن الوعد كان لنسل إبراهيم الوحيد الذي هو المسيح. وبناءً على ذلك، تعامل الله مع الشعب اليهودي في العهد القديم لكي يتمجد من خلال وعده لإبراهيم ويتبارك بنسله الذي هو المسيح أمم المسكونة كلها.
وعندما ننظر إلى الشعب اليهودي غير المؤمن بالمسيح اليوم، وكيف أنه "فاته" (عبرانيين 2: 1 و3) الدخول إلى أرض الموعد الروحية في المسيح "لعدم الإيمان" (عب 3: 18-19)، لا يسعنا إلاّ أن نرفع الصلاة لأجلهم ليعودوا إلى روحانية الأنبياء في العهد القديم، والقيم الأخلاقية السامية الواردة فيه، فيدلهم سراج النبوة ليهتدوا به إلى النهار الكامل في وجه يسوع المسيح (2كو 4: 6؛ 2بط 1: 19). ولن يُرفع البرقع عن وجه قارئ العهد العتيق إلاَّ إذا رجع إلى الرب (2كو 3: 14-16).
لا أعرف إذا كان هناك نص يوضّح هذا المبدأ الروحي أكثر من كلمات يسوع المسيح، المدوّنة في إنجيل متى 21، عن مثل صاحب الكرم. فبعد أن أرسل الله عبيده الأنبياء للشعب اليهودي مرارًا وتكرارًا مناديًا لهم بالتوبة والرجوع وقبول وعد المسيّا المنتظر، رفضوا وقتلوا عبيد صاحب الكرم، الذين مثّلوا أنبياء العهد القديم الذين لم يتجاوب شعب إسرائيل مع رسالاتهم. ويجب أن نأخذ في اعتبارنا أن يسوع كان يكلّم اليهود مباشرةً آنذاك. فعندما فشل العبيد كلهم في إصلاح شرّ الكرّامين، أرسل صاحب الكرم ابنه الوحيد، لكنهم قتلوه أيضاً. فماذا يفعل صاحب الكرم؟ نرى هنا أن مقولة النبوة تمت حين قال يسوع "الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ" (مزمور 118: 22). فالمسيح المرفوض من اليهود هو الأساس الذي يبنى عليه خلاص الجنس البشري. ومن دون لفّ ودوران أو استخدام تعابير غامضة على اليهود وقادتهم الدينيين، قال الرب يسوع المسيح لهم: "إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ" (متى 21: 43).
يناقض ما يقترحه لاهوتيون كثيرون وعدد كبير من الكنائس الغربية التي تؤيد الكيان الصهيوني وسياساته اللاروحية حول هذه المسألة كلمة الله قلبا وقالباً. فليس هناك شعبان مختاران. فالله له شعب واحد فقط يدعى الكنيسة التي اشتراها بدمه (أعمال 20: 28). هناك شريحة كبيرة من المسيحيين الذي يتبنون فكرة أن الله لم ينسَ عهده مع الشعب القديم أو أن هناك فرصة أخرى للخلاص غير متوفرة لغير اليهود ستأتي في المستقبل المجهول. لم ينسَ الله عهده مع إبراهيم، بل أتمّه في المسيح مانحاً إياه لكل الذين قبلوه حيث أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله (يوحنا 1: 12). ويؤدي هذا الميل أو الاعتقاد الخطأ إلى مأزق. فما ذنب اليهودي الذي لم يطل أو لن يطول بهم العمر للاستفادة من فرصة الخلاص المستقبلية؟ وكم من ملايين اليهود ماتوا من دون التمتع بخلاص المسيح؟ أين عدل الله وإنصافه؟ لماذا يقتصر الخلاص على بقية أقلية من اليهود بعد اختطاف الكنيسة؟ أقولها بصريح العبارة، ليست لهذه المعتقدات كلها أساسات كتابية، لكنها مفبركة لكي تدعم وجود اليهود وتضمن بقاءهم في أرض فلسطين. غير أنها تسللت إلى الكنيسة ودخلت تعاليمها في القرن التاسع عشر. ومن المؤسف أننا نرى عدداً هائلا من الناس يقتبس آيات تبرهن عكس حجتهم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تقول رسالة رومية: "ليسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ، بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً (رومية 9: 8). فالوعد إذن لأولاد الإيمان وليس أولاد الجسد. ويدل هذا على أن الذين يؤمنون بالمسيح هم إسرائيليون حقاً، أي أبناء الموعد. ويستطرد الكتاب قائلاً في الإصحاح 10 إنه لا فرق بين يهودي وأممي. إذ لا تتمثل الميزة في الجنسية والانتماء العرقي، بل بالإيمان بيسوع المسيح. وعلاوة على ذلك، فالإصحاح 11 يؤكد أن أصل الزيتونة هو أبو المؤمنين، إبراهيم (ومن المهم أن نتذكر أن إبراهيم لم يكن يهوديًا) لا الشعب اليهودي. (ومن الجدير بالذكر أن إبراهيم، عندما جاء من حاران، عاش غريباً في تلك الأرض، ولم يشرع في احتلالها بالقوة، حسب وعد الله له. فكان تعلّقه الجوهريّ بالله لا بالأرض. "بالإيمان تغرّب في أرض الموعد كأنها غريبة، ساكناً في خيام مع إسحق ويعقوب الوارثين معه لهذا الموعد عينه. لأنه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله" – عبرانيين 11: 9، 10. وعندما أراد أن يحصل على أرض كفيلة كقبر لزوجته سارة، لم يستولِ عليها بالقوة بحجة أنها له بموجب وعد الله، بل اشتراها بمال، رافضاً أن تُمنح له هدية بلا ثمن – تكوين 23: 1 - 20). عندما يؤمن بالمسيح أي إنسان أممي، فإنه يطعّم في تلك الزيتونة. فالشعب اليهودي قُطع من هذه الزيتونة برفضه المسيح. فعندما آمنت أنا الأممي بالمسيح، صرت شريكًا في أصل الزيتونة ودسمها (رومية 11: 17). فالزيتونة واحدة، وكل من يؤمن بالمسيح يطعّم فيها ومن لا يؤمن يقطع منها. ويؤكد قول المسيح شخصيًا هذا الأمر عندما قال: "وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضًا فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ" (يوحنا 10: 16). أي أن هناك شعباً واحداً ورباً واحداً. فكلمة الله تعلّمنا: "وَأَمَّا نَحْنُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَنَظِيرُ إِسْحَاقَ، أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ" (غلاطية 4: 28).
وإضافة إلى هذه الشواهد المتعددة التي تؤكد أن الإيمان بالمسيح يُدخل الإنسان في عهد مع الله، يكتب بولس الرسول (اليهودي الأصل من سبط بنيامين) في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي ويقول: "فَإِنِّكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ صِرْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِكَنَائِسِ اللهِ الَّتِي هِيَ فِي الْيَهُودِيَّةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لأَنَّكُمْ تَأَلَّمْتُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ عَشِيرَتِكُمْ تِلْكَ الآلاَمَ عَيْنَهَا، كَمَا هُمْ أَيْضًا مِنَ الْيَهُودِ، الَّذِينَ قَتَلُوا الرَّبَّ يَسُوعَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ، وَاضْطَهَدُونَا نَحْنُ. وَهُمْ غَيْرُ مُرْضِينَ ِللهِ وَأَضْدَادٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ. يَمْنَعُونَنَا عَنْ أَنْ نُكَلِّمَ الأُمَمَ لِكَيْ يَخْلُصُوا، حَتَّى يُتَمِّمُوا خَطَايَاهُمْ كُلَّ حِينٍ. وَلكِنْ قَدْ أَدْرَكَهُمُ الْغَضَبُ إِلَى النِّهَايَة" (1 تسالونيكي 2: 14-16). فما هي عقيدة بولس في هذا الأمر؟ لابد أن الكتاب المقدس يتكلم بقوة أعظم من أية حجة بشرية. والجدير بالذكر أن الرسول العظيم بطرس ينعت كنيسة المسيح بألقاب كانت فقط محصورة على شعب العهد القديم. فقوله: "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ" (1 بطرس 2: 9)، ويثبت هذا بدليل كتابي قاطع أن الكنيسة هي التي تحظى بالوعود والعهود. فهل اليهود في إسرائيل الحديثة كهنة وملوك وأمّة مقدسة؟ فكيف نجعلهم شعب الله رغماً عنه ورغماً عنهم؟ أكد يسوع أن إخوته وأخواته هم الذين يفعلون مشيئة الله. قال يسوع: أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها." (لوقا 8: 21) فهل هذا هو واقع الحال بالنسبة ليهود إسرائيل الآن؟ ومن المؤكد أنهم ليسوا أبناء الله بالتبنّي، لأنهم رفضوا المسيح نفسه الذي يتبنّانا لله. وفضلاً عن ذلك، فإنهم ليسوا أبناء الله لأن الروح القدس، روح المسيح وروح التبنّي، لا يسكنهم. وأبناء الله الوارثون يقادون بروح الله (رومية 8: 14). وأمّا الآخرون فعبيد لا يرثون (غلاطية 4: 1 – 7).
فما هو موقفنا كمسيحيين إبان الدعم الأعمى لدولة إسرائيل والمشروع الصهيوني؟ إن كلمة الله بريئة من كل ما ترتكبه دولة إسرائيل من مصادرة أراضٍ، وانتهاكات عدوانية، وقتل، وتهجير مئات الآلاف من الناس الأبرياء. فالدفاع عن هذه الممارسات أو السكوت عنها من أجل عيني إسرائيل إنما دفاع غير مدفوع بالمبادئ الكتابية المقدسة التي تدعو إلى العدل واحترام آدمية الإنسان قبل الصوم والصلاة (إشعياء 58). فإن كانت هذه الممارسات ممارسات شعب الله، فكيف تكون ممارسات شعب إبليس؟ ومن المؤكد أن إسرائيل الحالية لا تمثل إسرائيل القديمة إلاّ في أسوأ شرورها. وفي ضوء هذه الحقيقة، فإن عودة اليهود إلى فلسطين لا يعني عودتهم إلى الله. فلا تأثير للمكان في الارتباط بالله قرباً وبُعداً. وهم ما زالوا في السبي روحياً. نطالب بوقف أنواع التمييز العنصري كلها التي تمارسه إسرائيل بحقّ الشعب الفلسطيني، ونطالب بإنهاء الاحتلال غير الشرعي في مناطق الضفة الغربية والقدس كلها، وإعطاء الكرامة وحق العودة لكل الذين هجّروا من بيوتهم اوالذين ما زالوا محتفظين بمفاتيحها إلى هذا اليوم. إننا نرفض كل سياسة تعتدي على حقوق الإنسان الأساسية في الحياة بغض النظر عن جنسهم أو لونهم أو انتمائهم العرقي والديني. ونطالب بالعيش المشترك والسلام مع الجميع، كما أوصانا رب المجد أن نتّبع السلام مع الجميع يهودًا وأممًا.